الثورة أون لاين – د.ثائر زين الدين:
منذ أيّام صدرت عن الهيئة العامة السوريّة للكتاب رواية للصغار والفتيان عنوانها: “العملاق الطيب” BFG، للقاص والروائي البريطاني رولد دال، وقد ترجمتها إلى العربيّة السيدة ربا زين الدين، وهي رواية فانتازيّة صدرت عام 1982، وبحلول عام 2009 كان قد بيع منها 37 مليون نسخة في بريطانيا وحدها، إضافة إلى مليون نسخة في بقية دول العالم، والحق أنني لا أعلم حتى اللحظة ما الأسباب التي جعلت هذا القاص والروائي لا ينال من الشهرة في العالم العربي ما ناله كتاّبٌ غربيون وشرقيون أقل منه موهبةً وغنىً، بل لعلّك لا تجدُ بينَ المثقفين ومحبي فن السرد إلّا قلّة قليلة سمعت باسمه، في حين طبقت ذات يوم شهرة مواطِنِهِ سومرست موم الآفاق، وهو ليسَ أهم منه في مجال القصّة القصيرة.
هل يعودُ سبب ذلك إلى قلّةِ ترجمته إلى العربيّة؟ ربّما، فعلى حد علمي- وأرجو أن أكون مُخطئاً- ثمة بضع ترجماتٍ لبعض أعماله، وأولُها ما طبعتهُ الهيئة العامة السوريّة للكتاب عام 2008، أعني عمله الجميل “تشارلي ومصنع الشوكولاته”، من ترجمة د. ثائر ديب، ثم المختارات القصصيّة التي صدرت في دمشق عن دار الملايين عام 2013 بعنوان “صيّاد الجُرذان وقصص أخرى” لربا زين الدين، وأُعيدت طباعتُها في الجزائر بعنوان “رجلٌ من الجنوب”، وصدرت عن دار هلب بوكس عام 2019.
ولد رولد دال في لانداف، ويلز الجنوبية سنة 1916، وكانت حكايةُ مجيئه إلى هذا العالم ومكابداتُ طفولته مثيرةً وحافلةً بالحوادث كحبكة واحدة من قصصه.
أوصى والدهُ هارالد قبل أن يموت من جرّاء إصابته بذات الرئة بأن يتعلم أولاده في أفضل المدارس الإنكليزية، ونفَّذت صوفي دال وصايا زوجها الأخيرة فباشر ابنها رولد الدراسة في مدرسة لانداف الكاثيدراليّة التي كانت مصدراً غنياً لسيرته الذاتية وكتاباته الخيالية.
لكنَّه لم يصمد فيها أكثر من سنتين، وأخرجته والدته منها بعد أن تعرَّضَ لضربٍ مبرِّح وحشيٍ من قبل مديره، وفي التاسعة من عمره دخل دال مدرسة بيتر التحضيرية، وستون- سوبر – مير، ثم مدرسة ربتون العامة في مقاطعة دربي.
عمل رولد دال بعد مغادرة مدرسة ربتون عام 1934 في شركة شيل للنفط في لندن وشرق أفريقيا، و سنة 1939 في بداية الحرب العالمية الثانية، أصبحَ طياراً مقاتلاً، قبل أن يخدم في كينيا والعراق ومصر.
سنة 1940 هبط هبوطاً اضطراريا بطائرته الحربية كلوستر، في صحراء ليبيا، وأُصيبَ إصاباتٍ بليغة قضى من جرّائها أشهراً عديدة في المستشفى العسكري في الإسكندرية في مصر.
تأخر عن العودة إلى الطيران، ثم خدم بشجاعة ومهارة عاليتين في اليونان، قبل أن يتقاعد سنة 1941 نتيجة المعاناة، ولا سيما آلام الرأس التي خلَّفها الحادثُ المبكِّر الذي أصابه.
سنة 1942 أُرسل رولد دال إلى واشنطن بصفةِ ملحق عسكري جوي، والأرجح أنه عملَ في مجالِ الاستخبارات. كان لقاء دال بالروائي سي . أس . فورستر (1899-1966)، مهماً جداً فقد طلب إليه فورستر أن يسرد له ذكرياته عندما كان طيّاراً؛ كي يكتبها نصوصاً أدبيّة وسيناريوهات؛ حينئذٍ قرر دال أن من الأسهل والأجدى أن يفعلَ ذلك بنفسه، وهكذا كتبَ أولى قصصه القصيرة سنة 1942 وحملت عنوان ” القصف على ليبيا ” في مركز سترداي إيفنينغ، ونُـشر كتابه الأول سنة 1943.
أثَّر والت ديزني بقوّة في موهبة دال واعترفَ بإمكانياته الواضحة كاتباً لقصص الأطفال، و كانت تجاربُ دال الأولى في عالم الطيران، وما أحاط بها قاعدة لكثير من كتاباته المبكرة، بل لأعماله الأخيرة، فقصصه المشهورة كـــ ( B.F.G العملاق الطيب، و جايمز و جانيت بيتش ) تضمنت أخذ الشخصية الرئيسية في رحلات طيرانٍ وتحليقٍ خياليّة.
لم تلقَ رواية دال الأولى ” أبداً في بعض الأحيان “، التي أظهرت تخوّفاته من الحرب النووية ونشرت سنة 1948 النجاح المطلوب، وعلى الرغم من هذه العقبة الباكرة، فإن حياة رولد دال الكتابيّة الناجحة كانت قد بدأت.
بعد الحرب العالمية الثانية، أمضى رولد دال وقته متنقلاً بين بريطانيا ومدينة نيويورك، المكان الذي فتنه وسحره والذي غازل فيه جايمز وجانيت بيتش، وظلَّ يعيش مع أمه صوفي في بريطانيا في مدينة أمرشام، مقاطعة باكينغهام، محاولاً أن يؤسس سمعته ككاتب ويحقق نجاحاً في كتابة القصّة القصيرة .
سنحت فرصة دال الحاسمة عام 1952حينَ جذب إبداعُه اهتمامَ الناشر ألفريد كنابف الذي تأثر بروعة أعماله، ومع أن زملاءَ الناشر نصحوه بألا يتعامل مع دال، ولا نعلم سبباً لذلك، فقد نشر كنابف عمل دال: ” واحد مثلك “عام 1953، فكانَ هذا العمل من الكتب التي أسست سمعته كاتباً ماهراً لقصص اليافعين ورواياتهم، وبرز واحداً من أفضل كتّاب الأطفال، واستمر عديدٌ من قصصه يسلّي ويسحر الجمهور، نصوصاً مقروءةً وأفلاماً مميّزة.
اشتُهرت كتابات دال ولاسيما في بريطانيا والولايات المتحدة ونال جوائز عالمية كثيرة ومهمة.
توفي بشكل محزن في تشرين الثاني عام1990، لكن شعبيّةَ أعمالهِ تزايدت، واشتغلت السينما والمسرح على تحويلٍ كثيرٍ منها إلى نتاجات مسرحية وسينمائية ناجحة، ولعلَّ عبقريته التي لا يمكن إنكارها وخياله المبدع مسؤولان عن استمرار إعجاب العالم بكتاباته.
ومن الجدير بالقول إن روحه الماكرة وفطنته السريعة وحبه الأمور الغريبة أشياءُ لن تفشل أبداً في أسر الشباب والقرّاء اليافعين على حد سواء، وهذا ما يلفت انتباهنا في جميع قصصه القصيرة ومنها قصّته المعروفة “رجل من الجنوب”؛ ففي هذه القصة وضعنا القاص أمام واحدة من آلامه الشخصيّة الحقيقية في الحياة – المقامرة..
وصدم مشاعرنا مباشرة عندما شاهدنا استمرار الكهل في التحضير لإرضاء رغبته واضعاً رهاناته الشنيعة، باهظة الثمن، وبالمقابل فإن احتمال أن يصابَ الجندي الأمريكي الأرعن بعاهة جسدية لم يردعه عن دخول الرهان.
لن نشعر كقراء بالراحة على الإطلاق تجاه الرجل الكهل الذي لم يكن يشبع رغبته بالمقامرة فحسب، لكنّه في الآن نفسه يُرضي رغبته السادية المتوحشة، التي نكتشف في الأسطر الأخيرة من القصة (وهذه ميزة فنيّة لامعة في قصص دال كلِّها) أنَّه مارسها من قبل حتى مع زوجته، ودفعها أن تجرب الألم وتعاني التشوه لمجرد شوقه إلى ممارسة هوايته.
أمّا قصَّته ” الجلــــد”، التي كتبها دال بعد حرب باريس سنة 1946. فهي ساحرة بكل معنى الكلمة، يضعُنا الساردُ أمام مشهد دريولي فنان الوشم الفقير، الذي كان عمله مُزدهراً قبل الحرب، ولكنّه الآن يقفُ بهيئته المُزرية ويتأمل من خلفِ الزجاجِ حفل افتتاحِ معرضٍ فنّيٍّ تشكيليّ، ليكتشفَ بعد قليل أن اللوحات لصديقهِ الفنان سوتين، الذي عاشَ عندهُ في شقتهِ قادماً من روسيا (وهوفنّان حقيقي ساهم مساهمة كبيرة في الحركة التعبيريّة وتوفي عام 1943)، يتذكَّر دريولي أنّه في لحظات مرحٍ وسكر علّم سوتين كيف يصنع وشماً على الجلد، وأقنعه أن يرسمَ له على ظهرهِ صورةً لزوجتهِ شبه عارية، مُستخدماً الوشم الملوّن، وهذا ما يدفعه لدخول المعرض، رغبةً في تأمّل أعمال صديقه الذي كان يناديه “منغولي الصغير”، لكنه يصطدمُ باعتراض تجار اللوحات، ومتعهد المعرض؛ كيف لرجلٍ بائسٍ مخمور ذي هيئةٍ مزرية أن يزعج كبار الشخصيات والسيدات ممن يحضرونَ الحفل! ويوشك بعضهم أن يخرجه عنوةً، حينها يصرخ بهم جميعاً إنّه يحمل لوحةً لسوتين نفسه، وهي مرسومة على ظهره… ويخلع معطفه البالي ويريهم العمل. ربما لتبدأ مأساته. هذه القصة هي انعكاس لفساد تجار الفن الذين يطاردون ويلاحقون اللوحات القيمة والنادرة. النهاية تطرح سلسلة من الاحتمالات المرعبة، فالمعرضُ القادمُ لأعمال الفنان الراحل سيضمُّ لوحةً لامرأةٍ شبه عارية مشغولة بطريقة الوشم!
ولا تقلُ قصصهُ الأخرى: “المالكة”،” حمل إلى المسلخ”، و” بطل العالم”، و ” فوكسلي العداء”، و” السيدة بكسباي ومعطف الكولونيل”، و” صيّاد الجرذان”، و” المسافر المتطفل”، التي ضمَّتها المختارات روعةً عن الأعمال المذكورة؛ فهي نصوصٌ تطرحُ أمثلة ممتازة لفن كتابة القصة القصيرة، فلكل واحدة منها حبكة متطوِّرة، وشخصيات مميزة وممتعة وحوارات ملأى بالحياة، وأوصاف دقيقة، أسست على جو ملائم دون إضاعة اهتمام القارئ بالحشو وبالتفاصيل غير الضرورية.
تضمنت قصص رولد دال القصيرة سواء ما كتبه للفتيان أو للكبار عناصر الإثارة والخيال والمغامرة، ولعل القصص التي أشرتُ إليها تظهر بشكل خاص الأصالة والبراعة في استخدام اللغة، والبساطة والسهولة، ولقد نال الكاتبُ كثيراً من “المديح والإطراء على خياله المتألق وتسلسل أفكاره وحسه بما هو مؤذٍ. على أي حال، كَمَن خلف المرح غير الملحوظ في كثيرٍ من نصوصه سحرٌ ووحشية وبشاعة، وفي عديد من قصصه استطاع أن يقدّم الجانب المظلم للطبيعة البشرية، وفي بعض الأحيان جعل الناس العاديين حسب مظهرهم يملكون القدرة على العنف والتصرف غير الطبيعي” .
معظم قصص دال القصيرة يبدأ بمقدمة درامية قوية تشد انتباه القارئ منذ البداية، أو يبدأ بوصف الوضع العام، والشخصية العادية والوجود الروتيني الهادئ. لكن المظاهر الأولى غالباً ما تكون خادعة وتشعر القارئ بإحساس خاطئ أو وهميٍّ بالأمان، كل شيء يظهر طبيعياً، لكن القاص الماهر لن يضيّع وقتاً طويلاً حتى يغيَّر الجو كما هو الأمر في قصًّته ” حمل إلى المسلخ ” على سبيل المثال. من الصعبِ مثلاً تخيّل كيف أن وجود ماري ميلوني (بطلة القصة) المريح الهادئ يتحول بسرعة إلى مشهد جريمة غريب، كما أن الأفعال والأحداث العادية، كالسفر بالقطار من أجل العمل كما في قصة “فوكسلي العداء” يمكن أن تطرح وضعاً يمهد لعذاب طبيعي وحشي لا يطاق، إن باستطاعة دال دوماً من خلال الخلط بين الالتواءات الذكية والانحرافات والظروف غير المتوقعة أن يستحوذ على اهتمام القارئ.
“في كل قصة جديدة لا يُعرف بأي طريقة سيتطور الحدث، وما من تشابهٍ بين القصة والأخرى، في بعض الأحيان تتجلى الحبكة بالملابسة بين سلسلة من التلميحات الخفية والأفكار المبهمة كما في قصة ” المالكة “، حين ينطوي الأمرُ على شعور سيء بأن شيئاً ما لن يكون جيداً”.يعمدُ القاص من وقت إلى آخر إلى توظيف الغرابة، والحدث غير المتوقع، الذي يصدم القارئ كما في قصة ” صيّاد الجرذان ” أو ” حمل إلى المسلخ “.”ومهما تكن الطريقة التي يوظفها دال ليستحوذ على انتباه القارئ من صدمة إلى اشمئزاز إلى التواءات خفيّة في الحبكة فإن القصّة تتضمن دوماً وقتاً جيداً ونهاية مروعة، فخاتمة كل قصة من هذه المختارات تأتي متميزة ومثيرة وتبقى وقتاً طويلاً في مخيلة القارئ”.إن الجمع بين خيال رولد دال العبقري وذكرياته ولقاءاته الشخصية غير العادية، يخلق مزيجاً قوياً ومثيراً يضمن بأن يبقى القارئ مشدوداً حتى نهاية القصص، وهناك يــُترك القارئ دوماً مع عدد من الأفكار الغريبة والاحتمالات المثيرة للتأمل.إن مصير بيلي ويفر في قصة ” المالكة ” أو دريولي الفنان الواشم في قصة ” الجلد ” يمكن أن يُدرك بالتوقع فحسب”.تتجلّى متعة قراءة معظم نصوصِ دال في كشف الاحتمالات التي يقترحها بصورةٍ مُبدعة، فالوصف اللمّاحُ للمصائر المرعبة التي ابتكرها لكثير من شخصياتِه سيكون رهيباً جداً بالنسبة لأكثرية قرائه.إن معظم قصصه تأخذ غالباً القارئ في رحلة ضمن الجانب المظلم من الإنسان