الملحق الثقافي:وجيه حسن:
هذا العنوان ليس من بنات أفكاري، وليس من عندي، إنّما اقتبستُه من الرواية الماتِعة الشّائِقة «حكاية بحّار» للروائي السوري المرْحوم «حنا مينه»، الذي كان يُناصِر الكلمة بعامّة، في الحوار والكتابة والإلقاء، لقناعته الرّاسخة المُتجذّرة، أنّ الكلمة إمّا أنْ تكون مع الحقّ فتنصره وتنتصر به، وإمّا أنْ تكون مع الباطل فتخسر نفسها واحترامها، وتخون عندئذٍ مسؤوليتها الأدبية والأخلاقية والإنسانية على حدّ السّواء..
وكأنّي بكاتبنا الكبير «مينه» يقول: في تحبيرِ الكلمة ورسْمها وكتابتها، وفي نسجِ ضفائرها، وفي إلقائها على مسامع المُتابعين أو المُتلقّين، ينبغي أنْ ينتفي فيها التّذبذب والمُراوَغة والمُخاتلة والتسكّع، لأنّ «الكلمة مسؤولية» في الدرجة الأولى، وفي المقام الأوّل، وعلى الكاتب الحقّ أن يحترم كلمته بادئ ذي بدء، بحيث يكتبها من هناك من عصبِ الرّوح، من شغافِ القلب، أو يلقيها على مسامع الآخرين في ندوةٍ أو لقاءٍ أو أصبوحة أو عصرونيّة أو أمسية من الأماسي، بكلّ صدقيّة وشفافيّة، من دون أدنى لفّ أو تزوير أو زوغان، لأنّ هذا لا ينطلي على القرّاء أو المُتلقّين، أصحاب الذائقة الأدبيّة المُعافاة، بأيّ حال من الأحوال.. ثمّ ألم ترد في أقوالنا هاتِهِ الكلمات المُعبّرة: «منطقُ القلب لا جدال فيه، والكلامُ النّابتُ من القلب ساقطٌ أبداً في القلب»؟!..
من هنا ينبغي على ذوي الكتابة والمهتمين بها والآخذين بناصيتها، أن يكونوا صادقين في ما يكتبون ويحبّرون ويدبّجون، لأنّ القارئ الحصيف، أو المتلقي الفَطِن، يتمتع كلّ منهما بحسٍّ دقيقٍ مرهف، يستطيع به فرز القمح الجيّد من الزّؤان الخائب.. ثمّ ألم يقل السيّد المسيح: «في البدء كان الكلمة»؟ أي عند ابتداء الشّيء أو الحدث، والكلام هنا عن بدء قصة المسيح عليه السلام، و»كان الكلمة» تولد منه، وإنما هو ناشئٌ عن الكلمة التي قال له بها «كُنْ فكان».. أي كلمة الله التكوينيّة للمسيح من دون وساطة، ولهذا قِيل عن السيد المسيح إنه «كلمة الله»، لأنه لم يكن له أب.. ولا مندوحة لنا من القول هنا: إنّ لفظة (الكلمة) وردت حيناً بمعنى «الشريعة»، وأحياناً بمعنى «الوحي»، وأحياناً أخرى بمعنى «الأوامر الإلهية»، وحيناً بمعنى «العقل»، والشواهد كثيرة هنا ولا نحتاج لإيرادها، لأنّها معروفة لكلّ مَنْ تصفَّح (الكتاب المقدّس) أي «الإنجيل» بعينٍ بصيرة باصرة…
والكاتب – مطلق كاتب – إنْ لم يحترم كلمته المنطوقة أو المكتوبة، ولم يقدّر مدى تأثيرها في القارئ/ المتلقّي، فإنّ غايته عندئذ تكون ازْدراء القارئ أو المتلقّي، وهذا يرفضه أصحاب الكلمة الحقيقيون، لأنّ الغاية من الكتابة في البدء وفي المنتهى: احترام القرّاء / أو المتلقّين، وتقديم أفكار وموضوعات ورُؤى وكتابات تهمّهم، تلامس معاناتهم، تدغدغ مشاعرهم، تصف همومهم، تُحْدِث في عقولهم ونفوسهم تثويراً وتنويراً بآنٍ معاً، ليعرف الواحد منهم ما الأرض الصّلبة التي يقف عليها، وما جوهر المحطات التي يمرّ بها، وما المواقف التي عليه تركها وإهمالها، لأنها لا تساوي في رأيه وقناعته جناح بعوضة، وحتى تكونَ صوى الطريق واضحة أمام عينيه..
إنّ ما يكتبه أديب من الأدباء الحقيقيين، إنّما هو روضة قيّمة نَضِرة، لا يستطيع القارئ الحريص أنْ يلمّ بها بشكلٍ وافٍ، من دون أن يجد في أحرفها المتعة والفائدة في وقتٍ معاً..
ولو عثرنا على كاتبٍ ما، يُغالي في التّرف، وعلى آخر يُغالي في التّفلسف، حينها وعندها سنردّد على أذني كلّ منهما المثل اليوناني بصدقيّته وصراحته، هذا الذي قامت عليه فلسفة الفلاسفة وهم يقولون: (لا تُسْرِف)!
إنّ «الاختزال» في موضوعة الكتابة، (أعني عدم الإسراف والإطناب والتّطويل) أمرٌ لازبٌ لازم، يعرفه أهل الدّراية، أرْباب رُخَص الكتابة، أي أهل الأقلام والأوراق، أو أولئك الذين يتعاطون الكتابة بوساطة جهاز الحاسوب «الكمبيوتر»، هذا الجهاز العصريّ المتطوّر الذي حلّ محل القلم والورقة، وأخذ دورهما ودور الكتاب أيضاً..
من هنا، واعتماداً على ما ورد حول موضوعة الصّدق الأخلاقيّ والفنّي لدى الكتّاب والأدباء المبدعين، فإنّ الكاتب الروسي الكبير «أنطون تشيخوف»، كان جميلاً في بساطته وكتابته وكلماته، وأحبّ كلّ ما هو بسيط، حقيقيّ، صادق.. لقد عاش هذا الكاتب حياته كلّها على موارد روحه، وكان دائماً صادقاً مع نفسه، ومع قلمه وكلماته.. ويوم سأله أحدهم:
– مَنْ هُمُ الأقوى في رأيك؟..
أجاب:
– مَنْ يتغذّون أفضل، ومَنْ هُمْ أكثر ثقافة ووعياً وصدقاً مع الذات، في الحديث وفي الكتابة وفي منطوقِ الكلمات..
وهنا يحضرني قول أحدهم، ما دمنا في صدد الحديث عن الكلمة الصادقة، وعن قيمتها البليغة في راهن حياتنا: «ليست المسألة في ما يدخل الفم، بل في ما يخرج من الفم»..
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1063