الملحق الثقافي:وجيه حسن:
في مطلع هاتِه الدراسة على تواضعها، علينا أنْ نقرّ، وأن نعترف، أنْ كثرة كاثرة من البشر والأناسِيّ في هذه الأرض المُترامية، يحلمون أحلاماً ورديّة جميلة بروعة الحياة واتّساقها، ولا يتبادرنَّ إلى ذهن بعضهم، هذا السؤال السّاذج البسيط:
– مَنْ ذا الذي سيجعل الحياة رائعة مُزَرْكَشة بألوان قوس قزح، إذا كنّا سنحلم فقط؟!..
في الجواب:
– إلى جوار هاتِه الكتلة الرماديّة المُملّة من الأشخاص العاجزين المتسكّعين الفاسدين غير الواعين وغير المثقفين، وغير الوطنيين الحقيقيين، لا يمكن لهؤلاء وأشباههم صُنْع حياة رغيدة شفيفة ورديّة ملسَاء..
عليه ينبت القول بتساؤل:
– هل بأمثالِ هذه البثور والدّمامل والحَراشِف الآدميّة السّمكيّة، الذين يتصرّفون بمصائر الناس، في هذا الموقع أو ذاك، في هذه الدائرة أو تلك، تصرّف المالك بأرضه وأملاكه، يكون النجاح والتقدّم والارْتقاء؟
من أسفٍ بالغ الإيجاع، شديد المرارة، أقول: هناك في بلدنا الغالي أناسٌ أنانيون كأنانية الأطفال، ذابلون كما الشّيوخ، لا يقدّمون لبلدهم أيّ خير أو أدنى نفع، بل يعملون بنرجسيّةٍ طاغية على تهريم أموالهم، وزيادة رساميلهم بغير وجه حق، ومنهم مَنْ يلجأ لأجل ذلك إلى أعمالٍ وحركات وتصرّفات وترّهات وخزعبلات، لا تمتّ إلى الأخلاق والتربية والثقافة والوطنية والوعي الاجتماعيّ بأيّة صلة..
الكاتب الوطنيّ الحقيقيّ الخلوق، الصادق بينه وبين نفسه، الأمين على صنْعته وحرْفته، هو ذاك الإنسان الذي يتمتّع بفنّ اكتشاف الجوانب المُبتذلة، والشخصيات الهزيلة في المجتمع، قصْد تعريتها على الملأ، وفضْح تحرّكاتها أمام سطوة الشّمس “رائعة النهار”، وهو الكاتب النبيل الذي يسمح لنفسه أن تقول بجرأةٍ عالية، وبنبرةٍ حادّة بعض الشيء، لهؤلاء ولأمثالهم:
– “فلتكونوا أكثر نزاهة، وأبرز استقامة، فالوطن، لأجلِ إعلاء شأنه، يحتاج إلى مثل هذه القيم”..
ألم يقل لنا مدرّسو الرّياضيات ونحن على مقاعدِ الدراسة: “إنّ أقرب مسافة بين نقطتين هو الخطّ المستقيم”؟!. ثمّ ألم يخاطب ربّ العزّة أحد أنبيائه بالقول: “فاستقِمْ كمَا أُمِرْت”؟، وفي كلامنا الشعبيّ تقول الأمّهات والجدّات: “امشِ عدل يحتار عدوّك فيك”؟!..
تأسيساً على ما ورد، فإنّ الكاتب الحقيقي يمقت كلّ ما هو مُبتذَل، كلّ ما هو رخيص، كلّ ما هو قذِر، كلّ ما هو فاسِد، كلّ ما هو ساقِط، لأنّ الحياة لا تتّضح ملامحها جليّة باتّباع هذه المواقف الهزيلة السّاقطة وأمثالها..
الكاتب الصّادق الصّريح، هو الذي يعافُ النّذالة، هو الذي يُعرّي سوءات المُسيئين، يسلّط الضوء على الهنّات والسّقطات، قصْد تخليص المجتمع من أدوائه وعلله والأمراض، لأنّ الكاتب الفذّ، يعدّ ذلك جزءاً من مشروعه التّنويري في الحياة، ولأنه على قناعةٍ تامّة غير منقوصة، أنّ هناك أناساً لا يعرفون كيف يحترمون كرامتهم الإنسانية، ويعيشون كالعبيد مستسلمين من دون أدنى مقاومة، للقوة الغاشمة الفاسِدة..
الكاتب الوطني الصادق عدوّ شرس للابتذال، والتسيّب، والفساد، والفوضى، وهو الذي يبقى على موقفه هذا طوال حياته، يسخر من المُبتذلين والمُتسيّبين والفاسدين والهامشيين والفوضويين، ما شاءت له السّخرية اللاذعة، والنّقد البنّاء، وهو الذي يصوّر هؤلاء ومَن دار في فلكهم، ومَن أيّدهم وناصرهم أبشع تصوير، غايته في البدء والمُنتهى: تعريتهم، وتعرية مواقفهم الهزيلة، وسلوكاتهم الدّنيئة، علّهم بهذا يَرْعَوون ويفهمون، فتصحو ضمائرهم بعد رقادٍ طال أمده، وتعود إليهم عقولهم وأفئدتهم الغائبة أو المُغيّبة، قبل فوات الأوان، وقبل أنْ تقع الفأس في الرّأس، وهذا لا بدّ آتٍ لا محالة، إنْ عاجلاً وإنْ آجلاً..
بهذا المعنى يقول الأديب والناشط السياسي الروسي المعروف، مؤسّس مدرسة الواقعية الاشتراكية “مكسيم غوركي”: “في مرحلة الصّبا يبدو الابتذال شيئاً مضحكاً وتافهاً كأصحابه ومُعتنقِيه وحسب.. يحيط بالإنسان تدريجياً، ثمّ ما يلبث أنْ يتغلغل بضبابهِ الرّماديّ في عقله، وفي دمه كالسمّ الزّعاف، وكالدّخان الخَانِق، فيغدو الإنسان حينئذٍ أشبه ما يكون بلافتةٍ عتيقةٍ أكلَها الصّدأ”..
إذن، إنّ الكاتب الحقيقيّ، الأمين على حروفه وكلماته وعباراته، وعلى المضامين والمَغازي والفحاوَى، مدعوّ بأمانةٍ دائماً – في كلّ عصرٍ ومصر – إلى تغيير المفاهيم الباطلة، والأفكار السوداء، لدى أفراد مجتمعه، وهو – أي الكاتب – يؤدّي عملاً مهمّاً في الحياة، بل عملاً في غاية الأهميّة، وهو الذي يعمل على تخليص أفراد المجتمع من كلّ التّوافه المُضنية، التي لا لزوم لها، والتي تشوّه الوجه الحقيقيّ، والرّوح الحيّة البيضاء عند الناس الأصحّاء..
وفي كلّ كتابة من كتابات الأدباء الحقيقيين، الغيورين على أدبهم ومجتمعهم ووطنهم، يسمع المرء، بين الحين والآخر، آهاتٍ خافتة عميقة من قلوب نقيّة، إنسانيّة حقّاً، آهاتِ إشفاق يائسة على أولئك الأناسِيِّ، الذين لا يعرفون كيف يدافعون بقوّة واندفاع وصلابة عن كرامتهم، ونَبَالة نفوسهم..
ختاماً للقارئِ الحريص، ما قاله “الحسن البصري” يوماً:
“بعضنُا يصطادُ بعضاً، والشِّباك تختلف”
“ذا يجيءُ الأمرَ رأساً، ذا يدورُ أو يلفّ”
“والصّغير باتَ يدري: كيفَ تُؤكَلُ الكتِف”
“لا تُخادِع يا صديقِي بالحقيقةِ اعترِف”…
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1064