الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
إذا كان لكل أمة عريقة ذكرى مجيدة تحتفل بها، ولكل شعب جبار ملحمة خالدة يستعيدها ويفخر بها على مر الأزمان، فإن حرب تشرين المجيدة التي نحيي اليوم ذكرى انطلاقتها الثامنة والأربعين تختصر بكل جدارة واستحقاق هذه الذكرى الغالية وتحكي قصة هذه الملحمة الخالدة.
ففي مثل هذا اليوم الأغر من عام 1973 انطلق أبناء قواتنا المسلحة الشجعان بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد إلى تخوم جولاننا الحبيب ليكتبوا بدمائهم الطاهرة وبطولاتهم العظيمة تاريخاً عربياً جديدا مشرفا عنوانه الكرامة والإباء والشموخ والعزة، ليمحوا به آثار أيام سوداء مظلمة جاءت بها نكبة اغتصاب فلسطين ونكسة الخامس من حزيران.
ولا نملك اليوم ونحن نستعيد ذكرى هذه الحرب الخالدة، إلا أن نعيش مشاعر ممزوجة بالفخر والاعتزاز والإجلال تجاه من صنعوا هذه الملحمة الخالدة وسطروا صفحات مضيئة في تاريخ أمتهم وشعبهم بدمائهم وأرواحهم وتضحياتهم المباركة التي أعادت الكرامة وحررت الأرض، وكسرت أسطورة العدوان وقهرت الجيش – العصابة الذي روج له الإعلام المأجور والمتصهين بأنه لا يقهر.
ولعل من دواعي فخرنا واعتزازنا الكبيرين هذه الأيام أن أبناء وأحفاد أبطال حرب تشرين المجيدة يسيرون على نفس الطريق والنهج ويقدمون أغلى التضحيات وأعظم الملاحم في سبيل صون تراب الوطن وتحريره من رجس الإرهاب المأجور الذي شكل طوال أكثر من عشر سنوات أداة تخدم أطماع الكيان الصهيوني الغاصب، وهم يحملون إرث تشرين ويختزنون في وجدانهم كل قيمها ومآثرها الخالدة.
تشهد أيام حرب تشرين المجيدة لجيشنا العقائدي البطل بأنه صاحب الفضل الأكبر في تحقيق أول انتصار عربي في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، حيث واجه آلة الحرب الصهيونية الحديثة والمتطورة وتمكن من تحطيمها وقهر الجيش المتورم بأوهام القوة والتفوق العسكري، كما تمكن من تحرير أجزاء غالية من الأرض المحتلة، ولولا دخول الولايات المتحدة الأميركية الدولة العظمى بكل سطوتها وقوتها وجبروتها على خط الحرب وإنشاء جسر جوي لإنقاذ الكيان، وتحول المعركة إلى حرب استنزاف طويلة على الجبهة السورية، لكان الجولان العربي السوري محررا بكامل ترابه الطاهر.
لقد شكلت حرب تشرين التحريرية المجيدة حدثاً مفصلياً مؤثراً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني كان له ما بعده ولاسيما تأثيرها على مستقبل هذا الصراع وبروز حركات المقاومة الشعبية التي استفادت من دروس حرب تشرين، أصبحت أسلوباً عملياً مجدياً للحد من الأطماع العدوانية للكيان المجرم وإفشال مشاريعه، إذ استطاعت المقاومة الوطنية في لبنان على سبيل المثال تحقيق انتصارات ساحقة ومشرفة على العدو، هزّت صورة كيانه المصطنع ومرغت أنف جنوده وضباطه بالتراب، وأفشلت كل محاولاته لترميم قوة ردعه المنهارة.
تقول بعض الوثائق التي نشرها إعلام العدو قبل سنوات أن الصدمة التي أحدثتها حرب تشرين على معنويات الكيان الصهيوني والتقدم المتسارع للقوات السورية والمصرية على جبهات القتال آنذاك دفعت بوزير الحرب الصهيوني موشي دايان إلى اقتراح اللجوء إلى السلاح النووي كخيار ينقذ كيانه من الانهيار المحدق به، بعد أن سقطت أسطورة جيشه المزعومة وانهارت خطوط دفاعه “بارليف وألون” على الجبهتين بعد ساعات قليلة على بدء الهجوم.
وبالرغم من التطورات غير المتوقعة والأحداث السياسية التي أعقبت الحرب وسرقت بعضاً من وهج الانتصار المدوي، كاتفاقية كامب ديفيد الاستسلامية التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني، وتخلي معظم الدول العربية عن واجباتها القومية ودخول بعضها في دهاليز التسويات الفردية والتطبيع المجاني مع الكيان، إلا أن هذا الكيان لم يغادر المخاوف المصيرية التي صنعتها حرب تشرين، فانكبّ عبثاً على تحسين صورة جيشه المهشمة، كما جعل من سورية هدفاً لمخططاته العدوانية المستمرة لإدراكه بأنها الخطر الأكبر على مشاريعه وأطماعه التوسعية في المنطقة، والقلعة الوحيدة التي عجز عن اقتحام أسوارها سواء بأدواته الإرهابية التكفيرية أم بعدوانه المباشر عليها في مناسبات كثيرة تحت عناوين وذرائع لا رصيد لها في حسابات القيادة والشعب في سورية.
ما من شك بأن الكيان الصهيوني قد أخطأ في حساباته وتخميناته عندما اعتقد أن روح تشرين العظيمة التي أعادت للعرب والسوريين بوجه خاص كرامتهم وحريتهم وثقتهم بقدراتهم يمكن أن تموت أو تضعف بسبب الأزمة والحرب التي تعرضت لها سورية، فالسوريون لم يغيروا بوصلتهم ولن يغيروها، إذ مازال الجولان العربي السوري المحتل بشرفائه وأهله وكذلك فلسطين المحتلة بمقاوميها وأبطالها هدفا للاستعادة والتحرير، والمعركة لتحريرهما لن تتأخر كثيراً وهي برهن الأجيال القادمة التي رضعت مع حليب الأمهات هذه الروح الأصيلة الخالدة.