الملحق الثقافي:إعداد: نذير جعفر:
«في خضمِّ الرعب والرِيَب،
ونحنُ مهتاجو الذّهن، فزعو العيون
نضعُ حلولاً
وخططاً لما نفعلْ
حتى ننجو من الخطرِ المحيق المُهدِّد
لكننا مخطئونَ، فهذا ليسَ سبيلنا
كانت النبوءاتُ زائفة
أو أننا لم نسمعها، أو أننا لم نفهمها جيداً
كارثةٌ أخرى
كارثةٌ لم نحلم بها
تسقطُ علينا في عصفِ المباغتة
ونحنُ غير مستعدّين – لا وقت الآن –
وتأخذنا»..
«كفافيس»
«ما بعد كورونا ليس كما قبلها»، لعلّها العبارة الأكثر ترديداً ووروداً، في معظم ما قيل وكتب عن جائحة كورونا، سواء عن تأثيرها الجيوبولوتيكي (الجغرافي/ السياسي) في دولِ العالم، وشبكة علاقاتها فيما بينها، أم تأثيرها الاقتصادي/الاجتماعي في السلوك العام والفرديّ، وفي شتَّى نواحي الحياة ومظاهرها وفاعلياتها، بما في ذلك الأدب والفن بأجناسهما المختلفة.
لكن، هل ما بعد كورونا حقّاً ليس كما قبلها؟!. لعلّ من السهولة الإجابة عن هذا السؤال بـ (نعم) أو بـ (لا)، لكن ذلك لا يفي بأغراضِ التقصِّي العلمي، ولا بدّ للباحثِ هنا من الاحتراز في إجابته عن هذا السؤال، فجائحة كورونا هزّت كثيراً من اليقينيات والثوابت؛ وأثارت كثيراً من الخلافات في تحديد منشئها وماهيّتها البكتيرية أو الفيروسية، وزعزعت الطمأنينة التي كان ينعم بها العالم بدءاً من عوارضها، وسلالاتها المتحورة، وآليات انتشارها، وتحديد الفئات التي تستهدفها، ولقاحاتها، مروراً بسبلِ مواجهتها التي تراوحت ما بين التوقُّفِ الكليِّ عن العمل، والإغلاق العام للمدارسِ والجامعات والمؤسسات والمصانع وكلّ مراكز ونقاط التجمّع، والحجر المنزلي وارتداء الكمامة، أو التعامل معها من منطلق مناعة القطيع، واستمرار الحياة اليومية بالوتيرة نفسها، بإبقاء كلّ شيءٍ على حاله، وصولاً إلى التشكيكِ في البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، في توصيفها للجائحة ومصدرها، وفي تحديد عدد الوفيات يومياً، وفي تتبّع مناطق انتشارها، والوصول إلى يقينٍ علميّ بشأنها، يحدُّ من حالات الهلع والذعر والانهيار وفقدان الأمل التي رافقتها.
أجل، ما بعد كورونا ليس كما قبلها، لكنَّ هذه المقولة عامة ولا تفصح عن نتائج محدَّدة، فالموقف الدوليّ منها ليس واحداً، وآليات مواجهتها واللقاحات التي أُنتجت لمحاصرتها ليست واحدة، وحتى يومنا هذا ما زالت الخلافات بشأنها مستمرة، بين الدول العظمى التي تقبض اقتصادياً وعسكرياً على مصير العالم، وسرعان ما تنصّلت دول عدّة من مسؤولياتها تجاه هذه الجائحة، وتعاملت معها بفرديةٍ وأنانيّة انسحبت حتى على مجتمعاتها أيضاً!. إلى أن باتت كورونا مصدر الرعب الأول والأخير الذي يهدد حياة البشر أمام ما تحصده يوميّاً من أرواحِ مئات الآلاف منهم.
وحتى يكون ما بعد كورونا ليس كما قبلها، فذلك يستدعي موقفاً دوليّاً موحَّداً ومتضامناً ومتعاوناً في مواجهتها على كل المستويات والصعد، إعلامياً وصحيّاً وإجرائياً، عبر تأمين أماكن الحجر الصحي والمَنَافس الكافية للمصابين، واللقاحات المجّانية لسائر المواطنين، والمستلزمات الطبية والغذائية التي تسهم في محاصرة الوباء والانتصار عليه.
لم تكن كورونا أول وباء يهدد حياة البشر، فقد سبقها الطاعون، والكوليرا، والإيدز، وإيبولا، وسواها من الأوبئة التي حصدت أرواح الملايين في مختلف بقاع الأرض، وعلى الرغم من التقدّم العلمي الهائل، ما زالت البشرية معرَّضة للمزيد من الجوائح التي تهدد وجودها، وكما استنفرت الأوبئة السابقة همم الأدباء والفنانين، وحفّزتهم على التعبير عن انعكاسات تلك الأوبئة وتداعياتها المؤلمة على حياة البشر، عبّر عددٍ من الروايات والمسرحيات والأفلام السينمائية، فإن زلزال كورونا سرعان ما أثار اهتمام الأدباء والمثقفين والفنانين، وهيّأت فترات الحجر الصحي لكثيرٍ منهم الوقت المناسب للتأمل والكتابة، فصدرت أعمال روائية وقصصية وشعرية ودراسات وكتب عدّة، تتناول ما أحدثته كورونا من متغيراتٍ نفسية وسلوكية وردود أفعال متباينة تجاهها، نذكر منها الروايات الأربع التي فازت بجائزة التكافل الاجتماعي في زمن الكورونا، والتي جاءت بمبادرة شخصية من الدكتور «محمد الحوراني»، وصدرت في دمشق 2021م، وهي: «كارولين» للكاتبة «إيمان شراباتي»، و»سَمْسَق» للكاتبة «فاتن ديركي»، و»جدران العزلة» للكاتب «خليل العجيل»، و»نداء الأرواح» للكاتب «صفوان إبراهيم». والروايتان الأولى والثانية، تركِّزان على ما أحدثته كورونا من تغيراتٍ إيجابية وسلبية في حياة الناس، مستبطنة دوافعهم ومصورة سلوكهم ومواقفهم وصراعهم مع ذاتهم والآخرين.. والجدير بالذكر أن رواية «كارولين» الفائزة بالجائزة الأولى، تُعنى بتصوير نماذجٍ بشريّةٍ متعدّدة الجنسيات والأديان، في سياق حبكة متنامية تكشف عن طباعها وتحوّل مصائرها وسلوكها المغاير للآخر، في مواقف درامية وعاطفية، تجري داخل باخرةٍ في عرضِ البحر، يُفرض عليها الحجر الصحّي، وترفض الموانئ استقبالها!. إنها في المحصّلة ليست سفينة نوح، ولا تايتانيك، بل المصير الإنساني بِرمَّته، أمام تحدي الخطر المحدق به.
كما صدرت كتبٌ وأعمالٌ روائية في دول عربية عدّة منها: «مسار الوباء» للكاتب الأردني «مصطفى القرنة»، و»ليالي الكورونا» للكاتبة «أماني التونسي»، و «وهْمُ الكورونا» للكاتب العراقي «حسن عيسى»، و»هكذا واجهتُ كورونا» للكاتب الفلسطيني «رشاد أبو شاور»، وغيرها من الأعمال الأدبية والشّعرية التي نُشرت في المجلات والصحف العربية.
ولمعرفة آراءِ عدد من الكتّاب والكاتبات، بجائحة كورونا في حوض شرق البحر المتوسط، من سورية ومصر وفلسطين والعراق ولبنان وتونس والجزائر، توجهنا بالسؤال الآتي إليهم:
– جائحة كورونا أثّرت في مجملِ نواحي الحياة، فهل لتداعياتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، تأثيرٌ في الأدب بأجناسه المختلفة.. وما أبرز مظاهر هذا التأثير ما بعد كورونا؟ «..
لقد أجمع معظم الذين استفتينا رأيهم، على تأثير كورونا في الأدب، واستبعد بعضهم هذا التأثير، بينما أجاب آخرون بحذرٍ عن السؤال، مُقرِّين بالتأثير ولكن في حدود ضيّقة، ويرون أنه من المبكِّر الحكم على هذا التأثير.. نعرض فيما يأتي، آراء الكُتَّاب في تأثير جائحة كورونا على الأدب وأجناسه وموضوعاته:
آراءٌ من سورية
أحمد يوسف داود: شاعرٌ وروائي
«الفشلُ في العطاء المبدع.. أنتجته أسبابٌ سابقة على ظهور كورونا»
إذا كنّا نفترض أنه كان لدينا هنا في سورية أدباً ناشطاً بتميِّز، ومؤثِّراً في حياتنا العامة بشيءٍ من الكفاءة منذ عقود، فنحن واهمون.
إن وجود بعض من يجيدون كتابة نصٍّ أدبيّ جيد، أو يقدّمون عرضاً مسرحيّاً موفقاً إلى حدٍّ ما.. أو عملاً دراميّاً مُصوَّراً مقبولاً.. إلخ من أشكال ما تعوّدنا أن نُسميّه (إبداعاً)، لم يكن ذلك كلّه إلا نوعاً من الاستثناء الذي يؤكد، مدى استشراءِ الرداءة التي تعزّز فقدان الجودة عموماً.
نحن في حالٍ من الانحطاط الذي ينتجه الفشل العام في العطاء المبدع المؤثر، أنتجته وتنتجه أسباب سابقة على ظهور الكورونا، وسوف تبرز قوة تأثيرها بعد انحسارِ موجاتِ الأشكال المتطورة للكورونا، إذا قيّض لها أن تنحسر فعلاً..
نحن في (عالم عبادة المال)، ومع السخف والتردّي المرافقين له، لا أمل لنا في التغيير الواسع لأشكالِ التعبير الإنساني الرفيع، الواسع عن معنى وجودنا كبشرٍ حقيقيين على ظهر هذا الكوكب الذي يحيا الآن فيما نعرفه – نحن الأفراد الحالمون – بعيداً عن الفرصِ الحقيقية للتقدّم الفكريّ الذي نأمله، ونأمل بإحياء مُسبِّباته.
فلنكُف عن ربطِ انهياراتِ رؤيتنا لمعنى وجودنا النبيل بكورونا.. فتلك الانهيارات كانت قائمة قبل كورونا وستبقى بعدها إن اختفت، لأن العطب بدأ يستشري قبلها بكثير وسوف يستمر ما استمر الخنوع البشريّ العام القائم.
الحر غزال: روائي
«للأدب مرونةً واسعة تحميه من التغيير.. يستطيعُ استيعابِ الجائحة»
أعتقد أن للأدب مرونةً واسعة تحميه من التغيير، وإن كان التغيير هو المادة الأوليّة للأدب، لكننا نلاحظ مرونة الأدب كبيرة في مسألة الموضوع، فالأدب يكتب عن المستقبل كما في أدبِ الخيال العلمي، وفي الوقت ذاته ما زال يراجع الموروث البشري..من هذه الملاحظة نكتشف استطاعة الأدب استيعاب «الجائحة»، لتكون أحدَ موضوعاته من دون أن تؤثر على موضوع الأدب ككلّ، خاصة مع اتجاهه ليكون الإنسان هو موضوعه في العقود الثلاثة الأخيرة، مع انتهاء معارك الإنسان مع وحوش الخارج، لتبدأ معاركه مع وحوش الداخل، كما عبّر الروائي العالمي «ميلان كونديرا». ولاحظنا مرونة الأدب في مسألة الصورة، فهو السابق قبل غيره من ميادين الكتابة للنشر الإلكتروني.. بقي ـ إن عددنا الكتابة الدرامية من الأدب أكثر من الفن ـ وأعتقد أنها تحتمل ذلك- فهي الوحيدة التي تتأثر بهذه الجائحة، وما يمكن أن يتغير هو المظاهر الأدبية كالمهرجانات مثلاً، لكنها بعد أن فقدت زخمها سيبقى التغيّر في نطاق ضيق جداً.
د. أكرم الشللي: باحث
«المشتغلون بالعمل الفكري.. قد يجدون من الكورونا مادةٌ للبناءِ عليها»
إن أيَّ أحداث تأخذ اهتماماً محليّاً أو أوسع من ذلك لا بُدَّ أن تلقى لها صدى وانعكاساتٍ متعدِّدة على الحياة عموماً.. ومنها القضايا الفكريّة المختلفة..
ولو أجرينا مقارنة بين أثر الكورونا، وأثر الأزمات الخدمية التي تمسّ حياة المواطنين اليومية، فمن المؤكد أن المواطن لن يكترث بالكورونا، مقابل أن يحصل على احتياجاته من المواد الأساسية الاستهلاكية، والتجربة أكبر برهان.. تلك التجمعات التي نراها على منافذ توزيع المواد آنفة الذكر..
إن المشتغلين بالعمل الفكري ـ ومنها الأجناس الأدبية ـ قد يجدون من الكورونا مادة للبناء عليها، كونها ممكنة التناول سياسيَّاً واجتماعيّاً أكثر من القضايا الأخرى التي تمسُّ السلطة، عندما تكون مقصِّرة ومسؤولة عما يجري.
إيمان شراباتي: روائية
«كورونا ككلّ الأوبئة التي مرّت على البشر.. وخلّدتها إبداعاتٌ أدبيّة وفنيّة»
منذ زمنٍ بعيد والأدب يُقدِّم لنا صورة حيّة عن الأوبئة التي اجتاحت المجتمعات، وكيفية استجابة هذه المجتمعات لها، حتى سُمّي هذا النوع من الأدب، بأدب الكوارث أو أدب الأوبئة.
ويمكن القول: إنَّ كلّ الأوبئة التي مرّت على البشر وجدت طريقاً لِتُخَلَّد في إبداعات أدبية وفنية، سواء بوصفها أم بالتأريخ لها، أو ربما بالتنبؤ بها، وكان العديد من كتّاب أدب الأوبئة يشيرون إلى دلالاتٍ سياسيّة وفنيّة وإنسانيّة في كتاباتهم، أكثر من إشاراتهم لأحداثِ الوباء ونتائجه.
إن دلّ هذا على شيء، فإنما على تداعيات هذه الأوبئة وتأثيراتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة، على الأدب بأجناسه المختلفة.
فرواية «الطاعون» لـ «ألبير كامو» شكّلت صرخة وجودية فلسفية، عبّر فيها الكاتب عن عبثية الوجود من خلال التخييل الباذخ حدّ الواقع الصادم، وكان الحضور الغالب فيها للتأثير السياسي، حيث جعل من روايته رمزاً سياسياً وهو تفشّي النازية.
أما «غابرييل غارسيا ماركيز» في روايته «الحب في زمن الكوليرا»، فقد استدعى الوباء كثيمةٍ تكثيفية ليُبرز قصة الحب الأساسية، كي تجد طريقها للتشكّل بعيداّ عن أنظار الفضوليين، ليغدو الوباء حاملاً دلالة إنسانية وفنيّة معاً.
جائحة كورونا ليست خارج أدب الأوبئة، لكن ما كُتب عنها سواء في الرواية أو القصة أو الشعر، ما زال قليلاً جداً، وفي أولى خطواته، إلا ما كتب عنها كمقالات صحفية.. يرجع هذا إلى حداثة هذه الجائحة وغموضها، وكثرة التأويلات عنها، والجهل التام بمآلاتها ومخاطرها.
وقد أدّت التداعيات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وحتى الدينية لهذه الجائحة، إلى التأثير على الأدب بأنواعه المختلفة، في الوقت الحالي.
ولأن التواصل المباشر مع الآخرين يعدُّ أمراً خطيراً، فإن اللجوء إلى الأدب والكتابة كطريقة للتواصل كان هو البديل، فاتّجهت الأنظار نحو السرديات والتخييل وتوثيق الأحداث.
كما أن بعض الأقلام أرجعت هذا الفايروس إلى إمكانية أن يكون رمزاً للفساد السياسي، أو رغبة الدول الكبيرة في افتعال هذا الوباء كحربٍ بيولوجيّة هدفها القضاء على البشرية.. وتضاربت الآراء بين السياسة والدين، بعضهم اتّجه نحو نظرية المؤامرة السياسيّة، وبعضهم الآخر إلى أنه ابتلاءٌ إلهيّ، والأمر متروكٌ للسماء.
إلا أن التأثير الأكبر لهذه الجائحة على الأدب، تمثّل في ركود الاقتصاد العالمي بشكلٍ عام، ونتائج الإغلاق والحجر الذي عطّل الحياة، وأدى إلى شحّ الموارد، مما أثّر على الإنتاج الأدبي والإبداعي، من أدب ودراما أو سينما.
فالطباعة وتكاليف النشر وارتفاع الأسعار، وما لحقه من أضرارٍ أصابت المؤسسات الإعلامية والإنتاجية كافة، أدّى إلى إحجامِ عددٍ كبير من الكتّاب، عن خوض هذه المغامرة.
ويبقى ما كتب عن وباء كورونا، من روايةٍ وقصةٍ وشعر ودراما، ضئيلاً جداً أو معدوماً في بعض الأجناس، وربما في السنوات القادمة، سيُكتب عنه الكثير ليس كمرآةٍ مأساوية لما يمكن أن يصيب البشرية، بل كنقطة ضوء تمنح الأمل كالكثير من روايات أدب الأوبئة التي انتهت بزوال الوباء، وعودة الحياة تدريجياً.
التاريخ: الثلاثاء19-10-2021
رقم العدد :1068