الملحق الثقافي:هفاف ميهوب;
أن تعيش في بلدٍ ترصّعُ ملامحك بملامحها، حتماً أنت في سورية، وأن تعشق هذا البلد حدّ شعورك بأنها تلازمك، تنبض فيك وتكتبك.. لا بدّ أن تصير مبدعاً، تدون قصص وحكايا هذا البلد، بحلوها ومرّها.. بحزنها وفرحها.. بانتكاساتها وكبرياء إصرارها على الحياة، ومقاومتها لكلّ معتدٍّ وحاقدٍ وقاتلٍ، تأبى إلا أن تهزمهم، وسلاحها الكرامة التي يتسلّح بها رجالٌ، كلّلت بدمهم الطاهر، عديد انتصاراتها…
تكتبها الحبّ، الحياة، الألم، الأمل، الدمع، النزيف، وبأخلاقٍ كلّ سوري، تجذّر في انتمائه، فكان صوته هو ذاته صوت «جميلة» الحرّ الشريف:
«أنا جميلة، حفنةُ ترابٍ من سورية، تحملُ نفسَ رائحة أمي.. أنا صديقة «جينا» التي علّمتني «أبانا الذي في السّموات، وعلّمتها الفاتحة.. اسمي هو ملامحي التي أراها كلّ صباحٍ في المرآة، حاجباي يذكرانني بالفرات ودجلة، وفي عينيّ تعيش دمشق وحلب.. عندما أبكي يطوف العاصي، وعندما أفرح تزغرد درعا.. أطفال بلدي يلعبون على خدّي، وخطوط جبهتي تندى بعرقِ أجدادي..»..
هذا ما أراد أن يقوله «أنطون خليل حداد» باسمِ كلّ سوري، بل باسمِ سورية، الجميلة ذاتها في روايته، والتي سرد وجعها ووجع عائلتها، على مدى سنوات الحرب التي جعلت كلّ شيءٍ شاحب الملامح، يودّع الفرح والأمان والحياة، بقهر سعى أعداء وطنه، لجعله سبباً للانسلاخ عنه، وخيانة عشقه، وبسردٍ لعن كلّ من فرض عليه أن يقول، هذا الكلام الجارح:
«في بلدي تصحو الطفولة عند غياب الشّمس، وتهاجر الآمال بين جناحيّ سنونو عابر.. تُكتب الحكايات بين السّطور، وتصدر الكتب بصفحاتٍ فارغة.. في بلدي، أحلام الصبايا حفنة ريح، وآمال الشباب دموع اغترابٍ، وحلم الرجولة شاهدة فوق قبر.. إن كنت سوريّاً لا تمسح عن جبينك العرق المتصبّب خجلاً، بل تظاهر أنه قيظ، ولا تعالج مرضاً حلّ بك، فلن تموت إلا قهراً..».
يبدأ «حداد» الحكاية، حكاية «جميلة» أو «سورية»، من محافظة حمص، وتحديداً من بلدة «القصير» التي أشار بأنها، وإن كانت كنزاً من كنوز سورية العريقة، إلا أن أغلب سكانها، لا يجيدون قراءة تاريخها الذي قرأه العالم بأكمله، وظلّ خافياً على أبنائها..
ليس «القصير» فحسب، بل كلّ كنوز وأوابد سورية ودمشق، حيث الأبواب التي أدهشت العالم بأسرارها، دون أن تثير لدى أبناء وطنها، أيّ فضولٍ لاكتشاف ما ورائها..
تأملات وذكريات وقراءات، كلّها تداعت في روايته، لدى «عزيز» والد جميلة، ومدرّس اللغة الانكليزية الذي غرق في قراءة وطنه الذي يجهله، بعد أن بدأ بالعمل كدليلٍ سياحيّ، وقبل أن تشتعل المظاهرات التي اعتقدها بدايةً، مجرّد مطالب عفويّة في تطلعاتها، نحو حريّة ما كان يجهله..
فجأة، ينتزعه من تداعياته هذه، تحوّل المشَاهد التي ظنّها عفوية، إلى دوامةٍ من فوضى ودماء، أغرقته في الذهول والخوف، وجعلته يشعر بالعار، وهو يرى اقتتال أبناء البلد الواحد، بدعوى الحريّة…
«يا لمهزلةِ التاريخ.. يا لهولِ الفاجعة مما يجري!.. كيف لإنسان أن يقتلع عينيه بيديه؟!.. وكيف ستكون حاله، إن أصبح بلا نظر؟!..
هذا ما فكّر به، يرافقه الشعور بالخوف، ليس فقط على أبناء شعبه الواحد، بل وعلى ولديه.. الضابط في إدلب، وطالب الصيدلة في جامعة حلب.. خاف من ذلك فارتعد، وهو يتخيّل أن أحد أبنائه قد يقتل الآخر..
تتسارع الأحداث، وتتفاقم الأزمة وانعكاساتها، مثلما خوفه وزوجته وجميلته، ولاسيما بعد «شعوره بأنه بات مكروهاً، من الفصائل التي تشكّلت بعد أن أطلق الشباب في القصير لحاهم، وظهرت رايات غريبة، ومسمّيات طائفيّة للمجموعات المسلّحة التي انتشرت في كلّ أنحاء الوطن»، بل وبعد أن هاجر أنيسه وصديق عمره، خوفاً من تلك المجموعات، التي «استولت على البلدة بأكملها، مع سيارات غريبة دون لوحات، ومزوّدة بالرشاشات والأسلحة الثقيلة»، وكان أخطر ما في الأمر لديه، «الاختفاء النهائي للمثقفين والمتعلّمين»، الذين اعتقد بأنه قد يكون لهم تأثير على هؤلاء الهمج، الذين تبدّلت وجوههم واختلفت وتجدّدت، بطريقةٍ كان يعرف جيداً خلفيّتها البائسة والجاهلة..
الفجيعة الكبرى التي أبكت «عزيز»، تحوّل أحد أبنائه، من طالبٍ في الجامعة، إلى قاتلٍ ملتحٍ، انضمّ إلى صفوف العصابات المسلّحة، ما يعني أنه قد يقتل شقيقه الضابط، في أيّة لحظة تتمّ فيها المواجهة..
لم يكن هذا ما دفع «عزيز» لترك البلدة سريعاً، بل خوفه على أسرته، ذلك أنه أدرك بأن الجيش لا بدّ من أن يدخل البلدة، لتطهيرها من هؤلاء المسلحين، وبأن المعركة لاريب آتية.
يتوقف تفكيره، مع ارتجافٍ في قلبه، وهو يودّع بلدته بدموعٍ تنهمر، وتداعيات تجعله يحدّث نفسه:
«ما أصعب أن تترك روحك بين زوايا الحارات، على أسطح المباني، في عيون أهل حارتك، ورائحة ليمونة حديقة جارك.. ما أصعب أن تهاجر مثل جثّة هاربة من الموت، وروح معلّقة في كفنٍ غريب..».
في الطريق غير الآمن، تموت زوجته إثر رصاصة طائشة، يضطرّ لدفنها في العراء المجهول، ويتابع مع جارٍ كان قد هرب وأسرته معه، ومعه جميلته ابنته.. جميلة التي أحضرت في كيسٍ صغير، حفنة من ترابِ قبر أمها، والتي كانت تشعر، وكلّما فتحته لتشم عبيره الممتزج بعبير وطنها:
«نفس رائحة التربة التي أحضرها يوماً صديق والدها من الصحراء، ونفس رائحة تربة القصير بعد المطر.. حتى إنها نفس رائحة التراب الذي علق بمريولها المدرسي، في زيارة بصرى ومدرّجاتها»..
شعرت بذلك، فسرحت بخيالها: «إما أن يكون تراب هذا الوطن كلّه بنفسِ الرائحة، وإما أن رائحة أمي هي نفسها، رائحة تراب الوطن..»..
وتستمرّ رحلة الهروب. لكن، وفي هكذا حالات، لابد أن تكون النهاية كنهايات كثيرة، سمعنا عنها أو تخيّلناها، على مدى الحرب التي فرّقت بين «عزيز» وجاره وابنته، على أمل الاجتماع مجدّداً، بعد صعوبة إيجاد طريقةٍ ووسيلة تجمعهم وتنقلهم جميعاً، خارج حدود الموت أو الخطر..
المحطة الأخيرة لـ «جميلة»، كانت في فرنسا، حيث باتت لاجئة، لكن: «من يصدّق أن فتاة من القصير، باتت تتكلّم الفرنسيّة كالفرنسيين، بل وباتت زوجة طبيب فرنسي، وتعمل في دار لرعاية المسنّين؟!.. أيعقل أن تتحكّم الظروف في حياة البشر، وأن تقرّر الحرب، من سيموت ومن سيعيش منهم؟!»ّ..
كلّها أفكار، كانت تعصف برأسِ جميلة، إلى أن حقّق لها زوجها الدكتور الفرنسي، أمنيتها بأن تعود إلى وطنها، علّها تجد أخويها، وتلتقي بوالدها الذي تاهت حتى أخباره عنها..
تعودُ فلا تجد أثراً لقبر والدتها، ولا حتى عارفاً لخبرٍ عن مكان أو حال والدها.. وحدها الحرب، من أرشدتها إلى أن أحد أشقائها، كان قد أصبح إرهابيّاً مطلوباً، والآخر بطلاً مقاتلاً لا تدري إن كان قد استشهد، أو قُتل على يدِ أخيه.
تندم على زيارتها هذه.. تعود إلى فرنسا، تقرّر أن تسلخ عنها اسمها «جميلة»، لتكون مفردات هذا الاسم الراسخة على تضاريسها، أقوى وأشدّ قدرة على جعله، اسماً لطفلتها الأولى..
«أنا اسمي جميلة».. رواية تقع في 166 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت حديثاً عن «دار التكوين» في دمشق، وهي الرواية الثانية للكاتب «أنطون حداد» بعد «هارمونيكا»..
التاريخ: الثلاثاء19-10-2021
رقم العدد :1068