الملحق الثقافي:نبوغ محمد أسعد:
ظاهرةٌ جديدة يتّجه إليها الباحث والناقد «باقر ياسين» في كتابه «قال المتنبي ثم قال الطبُّ النفسي»، وقد وثّقها قبل أن يتكلّم أو يتحدّث الأطباء، عن أيّ وصفٍ لعلّةٍ نفسيّة أو سلوكيّة.. وفي الواقع، هو من شخّص الحالات النفسيّة التي عاشها «المتنبي»، وانعكست في نصوصه وأشعاره بأشكالٍ مختلفة .
علمُ النفس والطبّ النفسيّ، من المكوّنات العلميّة القديمة، وقد وجد المؤلّف أن «المتنبي» من أهمّ الشعراء الذين لديهم ما يستحقّ أن يقدّمه للإنسان عموماً، والعربي خصوصاً، معتبراً أنه ليس شاعراً فقط، بل وباحث في الطبّ النفسي، والنفس الإنسانيّة.
اعتمد «ياسين» في تحليله النفسي لشخصية «المتنبي»، على قراءةِ شعره، والمطابقة والبحث عمّا إذا كان ما قيل عنه صحيحاً أم لا، وسعى لتفسير معنى كلمة نرجسية، التي وجدها أكثر صفة تلازم شاعراً، لم يستقرُّ على حالٍ بسبب سفره وتنقلاته، ما جعلها الصفة الأهم في كتابه، حيث العجب والشّعور بالتفوّق وأوهام العظمة .
وما يناقض هذا تماماً، النرجسيّة السالبة التي تتمثّل بالشكوى والتظلّم، وذمّ الزمان والتقليل من شأنِ الذات، واليأس والمسكنة وإظهار الضعف، وكذلك التسلّط والإيمان بنظريةِ السيطرة والتحكّم والعدوانية.
يبدو أن «ياسين» في قراءته النقديّة والبحثيّة، اعتمد على التحليل التطبيقي، فذهب إلى تعريفِ وقراءة النرجسية، ثم جمع وقارن بين الواقع والأسطورة والخيال، فنجد في كتابه قراءات في معاجمِ علم النفس، والموسوعات النفسية لكبار المحلّلين والكتّاب وعلماء النفس، والفلاسفة والمفكّرين والمؤرخين والأدباء .
لقد اعتبر أن مغادرة «المتنبي» لأهله وعائلته في سنٍّ مبكّرة، لعبت دوراً كبيراً في تشتيتِ شخصيّته، التي وجد فيها النرجسية بأنواعها وأقوالها:
«وما قُلتُ من شِعرٍ تكادُ بيوتُهُ / إذا كُتبتْ يبيضُّ من نورها الحبرُ»
يعبّر هذا القول، عن ثقة «المتنبّي» بنفسه، وقوّة موهبته وقدرتها على التشكيلِ والتصوير والتعبير، وهو ما جعله يمتلك شعوراً كبيراً بالتفوق على أقرانه، في كافة القدرات، وقد ظهر هذا في قوله :
«أنا صَخرةُ الوادي إذا ما زُوحمتْ / وإذا نَطقتُ فإنّني الجَوزاءُ»
وقوله أيضاً :
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي / وأسمعتْ كَلماتي من بهِ صَممُ»
هذا المنطقُ الشعريّ الذي تجلّى لدى «المتنبي»، ينبع من سلوكه النفسيّ، وقد وجده «ياسين» بعد ولوج عالمه، فالنرجسيّة متناقضة لديه كما أسلفنا، فتارةً نجده يعلو بشأنه نحو القمّة، وأخرى يشكو:
«كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ/ لولا مخاطبتي إياكَ لم تَرَني»
نجد «المتنبي» هنا عكس ما ألفناه في مديح نفسه، فها هو يأخذ في الشكوى واليأس، بعيداً عن التعالي والتفوق والعظمة .
يبدو أن في حياته الكثير من هذا النمط السلبيّ، وقد نقل «ياسين» هذا النمط، عندما ذكّر بقوله يوم أصيبَ بالحمّى، وكان وحيداً:
«أقَمتُ بأرضِ مصرَ فلا وَرائي / تخبُّ بيَ المطيّة ولا أمَامي»
يكشف «ياسين» أيضاً، حالات أخرى في شخصيّة «المتنبي»، وهي حبّ التسلّط الذي وجد شواهد كثيرة تدلّ عليه، مثلاً: عندما رأى بأن الاعتداء يُردُّ بالاعتداء، والعدوان يُواجه بالعدوان:
«وما ذاكَ بُخلاً بالنّفوسِ على القَنَا / ولكنَّ صدمَ الشرِّ بالشرِّ أحزَمُ»
استدعى «ياسين» الكثير من الشخصيات، في تحليله لشخصيّة «المتنبي»، فحلّل نفسياتهم وشخصياتهم أيضاً، مثل «نابليون وهتلر وموسوليني وستالين»، كما نجد أنه أورد بحوثاً نفسيّة متوافقة، وأخرى متناقضة، محلّلاً رؤى العلماء والأدباء والمفكّرين، كـ «بشار ابن برد و فرويد وغيرهما»، ليصل إلى فقدان «المتنبي» لشخصيّته، وانتهائهِ بعد كلّ هذه العنجهيّة، إلى الرهاب وهو الخوف المرضيّ، أو كما يُطلق عليه «الفوبيا»:
«وما الخوفُ إلا ما تخوّفهُ الفتى/ وما الأمنُ إلا ما رآهُ الفتى أمِنا»
هذا بعض ما أورده «باقر ياسين»، في كتابٍ يُعتبر من أهمّ كتبِ القراءات المنهجيّة والنقّدية لشخصيّة «المتنبي»، وقد تفرّد الكاتب بالحياديّة والتحليل والدقّة، ليصل إلى إيجابياتِ وسلبياتِ حياة هذا الشّاعر.
لعلّ من الضروري أن يعرف القارئ، أن ما وجده «ياسين» من تطابقٍ وتكاملٍ شبه تام في بعض الحالات، بين رأي «المتنبي» وأحكام وفرضيات علم النفس والطبّ النفسي، هو أمرٌ مثيرٌ للدهشة والاستغراب والمفاجأة، لا سيما أن الفارق الزمني بين عصر «المتنبي» والعصر الذي بيّن فيه علم النفس والطبّ النفسي، كبيرٌ جداً..
ينطبق هذا أيضاً، على شعر الغزل لدى «المتنبّي»، ذلك أنه لم يكن بالسويّة التي جاءت في مديحه لنفسه وفخره بها، وهذا بسبب ظروفٍ نفسيّةٍ أهمّها، عدم قدرته على العطاء للمرأة التي خشيَ ألا تقدّم له شيئاً، كما يفعل أصحاب السيادة والشأن، فهو شاعرٌ متنقّل تنقسم ذاته إلى قسمين: حب التسلّط، والتفاني من أجل ذلك، وحبّ الذات، وكلّ هذا وفقَ ما أورده «ياسين» لا يُقلّل من شأنِ ومكانةِ هذا الشّاعر العظيم.
التاريخ: الثلاثاء2-11-2021
رقم العدد :1070