سيبقى الانسحاب الأميركي من أفغانستان لغزاً تختلف بشأنه التحليلات والتوصيفات، إلى أن تأذن الإدارة الأميركية بكشف الحقيقة والإعلان عن الأسباب الحقيقية التي دفعتها لاتخاذ تلك الخطوة وفق الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم وسط حالة من الذهول.
فبعد أكثر من شهرين على ذلك الانسحاب ما زالت الخيوط تزداد تشابكاً وتعقيداً، فهل كان ذلك بمثابة هزيمة للولايات المتحدة الأميركية؟ أم كان مؤامراة منها؟ أم تم الأمر بتوافق كامل مع حركة طالبان؟ وهل صحيح أن الإدارة الأميركية كانت تتوقع صمود الجيش الأفغاني لسنتين على الأقل؟ وأخيراً هل كانت النتيجة مفاجئة للولايات المتحدة الأميركية والعالم في سرعة سيطرة طالبان على كل أفغانستان خلال أيام قليلة؟ لتفضي تساؤلاتنا للبحث في الدور المستقبلي لطالبان في وسط آسيا والعالم، والعلاقات مع دول الجوار ولا سيما إيران، روسيا والصين؟!.
من السذاجة القبول بهزيمة عسكرية للولايات المتحدة الأميركية في بلاد الأفغان أجبرت القوات الأميركية على هذا الانسحاب المفاجئ، وإن كانت تعلن عزمها الانسحاب سابقاً، وفي مناسبات متعددة، فواشنطن التي بدأت حربها المزعومة على الإرهاب العالمي بدءاً من أفغانستان، وهي التي أنفقت مليارات الدولارات لإنشاء جيش قوي يتبع سياستها، والتي استمرت لعشرين عاماً في احتلالها، والتي تحملت مسؤولية مئات الضحايا، والتي لم تكن تواجه تهديداً حقيقياً من خلال وجودها في ظل عدم وجود معارضة دولية لها، وعدم وجود دول أو جهات كبرى تدعم حركة طالبان، الأمر الذي يعني أن الإدارة الأميركية اتخذت ذلك القرار بهدوء وروية، مهما كانت تبعاته، إن كان ثمة تأثيرات سلبية ينعكس عليها بسبب ذلك القرار.
ويبقى الحديث عن الدور المستقبلي للحركة في حدودها الإقليمية مع كل من بكين وموسكو وطهران موضوع الخلاف والتباين التحليلي في السياسة الدولية، إذ أن الحركة صدمت العالم بالكثير من المواقف والقرارات التي لا تنسجم ومعرفة العالم بها؛ ففضلاً عن سرعة سيطرتها على البلاد وسرعة استسلام الجيش النظامي، فإنها لم تقدم على ارتكاب جرائم واعتقالات بحق مسؤولي وموظفي وضباط العهد الأميركي السابق، بل على العكس طلبت إليهم المشاركة في إدارة الدولة في المرحلة القادمة والاستفادة من خبراتهم الفنية وعلاقتهم الطيبة مع الولايات المتحدة نفسها ومع غيرها من الدول.
وهذا ينسحب على العلاقات مع دول الجوار، فلا يبدو أن طالبان مقدمة على ضرب مصالح تلك الدول تنفيذاً لأوامر أو أجندات تخدم السياسة الأميركية ضدها، ومن المؤكد أن الحركة كانت على اتصالات سرية مع تلك البلدان قبل سنوات، بالتوازي مع المفاوضات السرية والعلنية مع الإدارة الأميركية ذاتها، فهل تغيرت طالبان وغدت حركة غير فئوية تسعى لبناء دولة حديثة تحترم حقوق الإنسان وتتوافق مع المعايير الأوروبية والغربية؟!.
ذلك أمر يدعو للاستغراب والدهشة في آن واحد، فإذا كان من السهل جداً على الولايات المتحدة الأميركية القيام بغزو أفغانستان بدعم دولي شامل، وإذا كان من الصعب القضاء على حركة طالبان بعد عشرين سنة من الاحتلال، فإنه من المستحيل إقامة دولة حديثة وفق المعايير الغربية في ذلك المجتمع الأفغاني المتداخل والمتباين والمتعارض على المدى المنظور، وربما على المدى الطويل أيضاً.
وبعد هذا يبقى السؤال حاضراً بقوة ولا يتراجع، وماذا بعد؟ وما هو المطلوب من الحركة (التي كانت إرهابية)وتم (العفو عنها) لتحتل حكومتها القادمة مكانة مميزة في المؤسسات والهيئات الدولية، وهو ما يجري العمل عليه بقوة.
معاً على الطريق – مصطفى المقداد