الفلسفة كلمة مشتقة من اللفظة اليونانية (فيلو سوفيا)وتعني محب الحكمة وأول من استخدمها كمفردة هو الفيلسوف اليوناني فيثاغورث وارتبطت الفلسفة ابتداء باليونان لجهة أن سقراط وأفلاطون وأرسطو أصبحوا على كل شفة ولسان ولكن الفلسفة لم تقف عند حدود بلاد الإغريق فقد ظهر فلاسفة كبار في شتى أنحاء العالم وفي كل مراحل التطور البشري وترافق ذلك مع مدارس فلسفية نشأت وتطورت في مجتمعات بشرية منحت الفلسفة معنى وفهما خاصاً بها، فمن فلاسفة عصر الطبيعة إلى الفلسفة القيمية والأخلاقية إلى فلاسفة عصر النهضة الأوروبية وقبل ذلك الفلسفة الإسلامية والصينية والفارسية وغيرها، وصولا لفلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين وعلى رأسهم نيتشه وهيغل وماركس وأبو الفلسفة البراغماتية وليام جيمس الذي سنكون بصدد فلسفته النفعية عبر إضاءة سريعة لجهة إنها الفلسفة الأكثر حضوراً وتأثيرا في عصرنا الراهن، يؤصل لمفردة البراغماتية من لفظة يونانية وتعني العمل النافع أو المفيد ويقول مؤسسها وليم جيمس إن الاتجاه البراغماتي يعني تحويل النظر بعيداً عن الأشياء الأولية، المبادئ والنواميس والفئات، الحتميات المسلم بها، وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، الآثار، الوقائع، الحقائق، فالبراغماتية ليست لها أيّ عقائد يقينية أو حاسمة أو أي مبادئ فعلينا أن نضع المفاهيم المطروحة كلها على بساط البحث وعلى المحك وسنحصل على النتائج دون الجدل العقيم ومعيار ذلك الفائدة المتحققة والمنفعة الحاصلة فالفكرة الجيدة هي الفكرة المفيدة والنافعة وليس الإطار الأيديولوجي الذي يغلفها، إنها كورقة النقد تظل صالحة للتعامل إلى أن يعترضها معترض ويثبت زيفها وبطلانها وتستمر صدقيتها ما دامت سارية المفعول فنحقق بها ما نريد من أغراض.
والفلسفة البراغماتية هي فلسفة تصور العصر العلمي الذي نعيش فيه اليوم بصفة عامة وتصور الحياة العملية التي يعيشها الأمريكيون في دولتهم الصناعية الحديثة بوجه خاص وكان أول من دشن للفظ البراغماتية في الفلسفة قبل أن يحولها وليام جيمس إلى فلسفة مكتملة البنيان مقال للفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس تحت عنوان ((كيف نجعل أفكارنا واضحة)) مبيناً فيه انه لوضوح أفكارنا في موضوع ما فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب عليها من آثار عملية مفيدة، ونظرا لارتباط البراغماتية بالمنفعة والمصلحة دون المبادئ رآها الكثيرون على إنها امتداد للفكر الانتهازي الذي طوره وبلوره ميكيافيللي صاحب كتاب الأمير القائم على قاعدة وفكرة أن الغاية تبرر الوسيلة ويرى هؤلاء أن ثمة ازدواجية مشتركة بين مكيافيللي والفكر البراغماتي وأن هذه الازدواجية هي أبرز ما يميز الانتهازية السياسية وشقيقتها التوءم الانتهازية الاجتماعية لجهة أن المكيافيلية تؤمن الزواج (غير الشرعي)بين نقيضين استناداً لمفهوم محدد هو تحقيق المصالح الخاصة سواء بفرد أو جماعة فقد تلوث الهدف النبيل بوسيلة فاسدة.
ويقدم بعضهم تفسيراً آخر للبراغماتية بوصفها خياراً واقعياً ولكن البعض الآخر يراها فلسفة خاطئة بل وممارسة لا أخلاقية تضع سلوك الإنسان بمنزلة السلوك الحيواني الغرائزي فالإنسان لم يصبح إنساناً إلا بفضل تطويره منظومة قيم وسلوك رفيع وحينما يتخلى عنها يرتد إلى الحيوانية وما قبلها فالبراغماتية أشبه ما تكون (بتفاحة الخطيئة)التي بسببها خسر الإنسان جنة الفردوس وفق أسطورة الخلق وهكذا فإن البراغماتية تندرج ضمن المذاهب النفعية وهي لا شك مذاهب كثيرة ومتعددة امتدت عبر سياق تاريخي وفلسفي طويل وممتد.
وعلى الضفة الأخرى يرى أنصار البراغماتية إن لتلك الفلسفة جهوداً ومنافع ونتائج لا تنكر في دفع تطور الفكر وتحدي العجز والنظر للمستقبل وعدم التقوقع في غياهب الماضي واخضاع كل شيء للتجربة ما يجعل الأفكار في شك حتى تثبت نجاعتها وهو الأمر الذي جعلها الملهمة للعالم الرأسمالي القائم على مبدأ المنافسة الحرة ومبدأ النجاح الذي له قوة القانون وليس الأيديولوجية الصلبة وفق الثقافة الأميركية القائمة أصلا على النفعية وما حققته من إنجازات هائلة على المستويات كافة دون التقوقع في ثقافة (الصندوق) التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني هيغل وفكرة أن التطور يحدث بتناقض الأفكار وتوالدها وصولاً للأفضل منها.
لقد أسس وليم جيمس مذهبه البراغماتي وربما لم يكن يتصور أن هذا المذهب الفلسفي سيكون هو الفلسفة التي سيسير عليها المجتمع الأميركي الذي احتضن ولادتها وإنما أيضا المجتمعات الأوربية ومناطق أخرى من العالم وأنها ربما ستكون فلسفة المستقبل لقناعة كثيرين غيره بأنها( فلسفة حياة لا تعرف الموت) ولكن هذه القناعة تصطدم بجوهر ما قاله الفيلسوف الألماني وهي مسألة ترسخت بالتجربة: إن الزمن يتزوج أفكاراً ثم يأتي زمن آخر فيطلقها أو تصبح أرملة ؟.
اضاءات – د خلف المفتاح