الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم:
يتّكئ الشاعر «منذر يحيى عيسى» في مجموعته «لا توقظوها.. حالمة»، على أنساقٍ متتالية من الجملِ والصور الشعريّة المتناغمة، محاولاً الوصول عبر لغةٍ شفيفة، إلى قصيدةٍ نثريّةٍ غاية في الإدهاش، ولعلّ اختياره لهذا العنوان الذي يعكسُ عمق ارتباطه بقريته التي نشأ فيها وترعرع، وسكب من دنان أنهارها المعتّقة بالبساطة والطيبة، حروفاً معطّرة بجمالية المكان وسحره.. لعلّ هذا الاختيار، يعدّ مؤشراً أوليّاً لتجربة الشّاعر الغنيّة، وقدرته على صياغة الصورة الشعريّة، بحرفيّةٍ عالية، دقيقة وشاملة ….
«يجيءُ الصّباح ..
ليرمي ذهولهُ على جدرانِ قريتي
وقد تندّتْ أوصالها شوقاً
ومالتْ كي لا تُلام ..».
يستخدم الشّاعر في نصوصه، لغة واضحة، جليّة، محاولاً أن يغوصَ في بحورِ الوجد، وهو القابض على جمرِ الانتظار، وبكلِّ ثقّة يقدّم «أوراق اعتمادٍ» لقلبٍ أضناه الشوق، ولوّعه البعد …
«بهدوءٍ..
يقفُ أمام بواباتِ الصّدر
وينقرُ بيديهِ الغضّتين..
وينتظر …
ولأنّهُ قلبٌ
جاء يقدّمُ خفقاتهُ أوراقَ اعتمادٍ
يأملُ أن يوقظ في هذا السكونِ
أشواقاً دفينة ..».
يقدّم «عيسى» في هذه المجموعة، نصوصاً غنيّة بالمفرداتِ الرشيقة، العابقة بالصور الطافحة بالجمال، وهذا ما أكّده الشّاعر «محمد حديفي» في تقديمه للمجموعة:
«منذر يحيى عيسى، شاعرٌ امتلك من جميلِ المفردات ورشاقة الصور، ما يجعلُ المرء يقف أمامه باحترامٍ وإكبار، وخاصة أن مجمل قصائده تُصنّف ضمن دائرة الشّعر الراقي، البعيد عن المباشرة والسطحية والابتذال.»
تنوّعت موضوعات المجموعة، بين الاجتماعي والوطني والإنساني والغزل، مما جعلها تضجُّ بالواقعية …
«وردةٌ حزينةٌ
تكوّمتْ تويجَاتها
تنشدُ لوقتها الأمان..
شذى تنورٍ
يوزّع أرغفته للعتباتِ القادمة
وأنا الذي يُشاغلني الحنينُ لرائحةِ الخبز
وقد خمّرتهُ أمي بالدعاء ..»
في غمرة الأسئلة الحيرى وتداعياتها، يركّز الشاعر في «براري الاسئلة» على مرافئ ذاكرته. ذاكرة الطفولة وملاعب الصبا، حيث يقول :
«ها أنتِ..
قد أمسكتِ بأصابعٍ من شموعٍ
خيوطَ طفولتي الغابرة..».
يستمرُّ في طرح أسئلته، وهو ما زال يلحُّ في رحلة البحث عن أجوبةٍ مُقنعة، تطفئُ عطشه بعد رحلةٍ طويلة وشاقة، في براري استفساره التي لا تنتهي:
«من أنتِ؟!.. أيتها الأنثى
التي تداوي وجعَ الفصول؟..
وتخلقُ وقتاً كما تشاء
وأنا من ضيّعَ الأسماء
في شرفةِ الصّدر .. وسحر الرؤى ..»
تضمُّ المجموعة الكثير من المقطوعات الشعرية، إلى جانبِ القصائد الطويلة نسبياً، فقد حاول الشاعر أن يقدّم من خلالها، فكرة مقتضبة، أو ومضة، بعيداً عن الإطالة أو الإسهاب، وهذا ما نلاحظه في «عشق الطفولة»:
«في طفولتنا
كنّا نحفرُ أسماءَ من نهوى
على لحاءِ الأشجار
أو فوقَ الجدران
بأصابعٍ من نار..
وعندما فاجأنا العمر
وجدنا هذي الأسماء
جمراتٍ متّقدة
على شغافِ القلب..».
ويبحر الشاعر في مراكبِ العشق، عبر قصائدٍ غزلية دافئة، عابقة بشغفِ المواعيد وحرارة الانتظار …
«لأنكِ الوحيدة .. التي تعرفُ ما أداريه
طاردتني سحبُ المفردات
كأنها ألوانٌ تزاحمُ ظِلالها
عندها أويتُ إلى كهفِ الغياب
وقد خبأتُ فيه شوقاً إليكِ».
أما قصيدة «لا توقظوها.. حالمة» التي حملت المجموعة اسمها، فقد استفاض الشاعر فيها بلاغة، وصوراً شعرية مُنتقاة بحرفيّة عالية..
«يجيءُ الصّباحُ
كمسافرٍ يؤوبُ
متدثّراً بوهيجِ شوقه
يبحثُ عن البياضِ
في أدراجِ ماضيه .»..
«لا توقظوها.. حالمة».. مجموعة شعريّة صادرة عن اتحاد الكتّاب العرب -دمشق، وهي ذات نكهة خاصة، قدّم «منذر يحيى عيسى» من خلالها، لونه الشعريّ المميز، فبدت القصيدة لديه كقلادةٍ في جِيد فتاةٍ فائقة الجمال.. لغته دقيقة وصوره مفتوحة على المدى، وهذا التفرّد أعطاه سمة خاصة في تطويع القصيدة، وإعادة تشكيلها بتقنيّةٍ عالية .
الشاعر مواليد طرطوس، يحمل إجازة في العلوم الكيميائية الحيوية، ودبلوم تربية وعلم نفس، من جامعة دمشق. عضو اتحاد الكتاب العرب – جمعية الشعر – رئيس فرع اتحاد الكتّاب العرب في طرطوس .
للشاعر مجموعة من الأعمال الشعرية المطبوعة أهمها: راياتٌ سوداء لها شكل الفرح، تحولات القلب، حالاتٌ لعصفِ القصيدة، عابرٌ إلى ضفّة أخرى، لا توقظوها.. حالمة، إضافة إلى العديد من الدراسات والأبحاث الأدبيّة.
التاريخ: الثلاثاء16-11-2021
رقم العدد :1072