سبر الفيلسوف الألماني سيجموند فرويد مستويات الوعي البشري، وخلص إلى أن الإنسان كائن فردي واجتماعي في مستويات سلوكه ويتأرجح بين الأنا وال، “نحن” والـ “هو”، ويشكل الضمير الجمعي عنصراً فاعلاً ومؤثراً في السلوك إلى درجة أن الفرد يكاد يكون لسان حال الجماعة ما حدا ببعض الفلاسفة ومنهم مارتن هايدجر للقول بالوجود الزائف للفرد، ويقصد بذلك عالم الوجود الجماعي، وهو وجود الإنسان الذي يعتمد على الشائع من الأقوال والمقاييس ولا يعتمد على أي برهان عقلي أو علمي في نظرته للأشياء والمحيط ويعتمد على مقولة (يقال إن) فهذه توفر للشخص شعوراً زائفاً بالوجود الحقيقي بوصفه يتبنى أفكاراً أو مواقف وكأنه يحقق ذاته.
هذه (الثرثرة)لا تقف عند حدود الكلام والقول فقط بل تشمل الكتابة والقراءة، فحين يكتب شخص ما اعتماداً على مقاييس الآخرين ووفقاً لما يرونه سواء وعى ذلك أم لم يعه فإنه يبقى في وجوده المزيف الذي يفتقد فيه ذاته وتتسطح أفكاره، فلا تصل إلى جوهر الأشياء وأعماقها بل تقف عند حدود إطارها الخارجي ما يشعر الفرد بالتبدد وعدم الاستقرار ومن مظاهرها أيضاً الغموض والالتباس، فهو لا يمثل ذاته بل يمثل روح الناس وثقافتهم ومواقفهم إنه تابع لهم ما يجعله يفقد ذاته تماماً، إنها حالة فقدان الشخصية والكيانية لدرجة أن درجة الفقدان هذه تجعل من تصرفاته وطريقة عيشه وتفكيره قائمة على ما يراه الآخرون لا ما يراه هو.
وعلى عكس ما سبق يكون الوجود الحقيقي النقيض للوجود الزائف فهو قائم على تحقيق الذات قبل كل شيء، وهذا يعني أن يحقق الفرد استقلاليته ليس بناءً على ما يراه الآخرون، ولكن بناءً على ما يراه ويعاينه ويحاكمه بعقله ووعيه الذاتي ووفق خياره وحريته، وهذا لا يعني الاعتزال عن الوجود الجماعي بل العزلة للعثور على الذات وتحقيقها باستقلالية، فهي عزلة للعثور على الذات من بين ركام الاغتراب، وهذا الاعتزال يوفر للفرد صفاءً ذهنياً يتيح له إعادة التفكير في أشياء كثيرة أنها جردة حساب عقلي تخرج من (الصندوق) كل ما هو صدئ ومتعفن ومستهلك من ركام الثقافة.
إن هذا المستوى من الوجود الحقيقي هو الذي يعطي للشخصية سماتها واستقلاليتها وحريتها في الخيار وتشكيل قناعاتها وفق مخبر التحليل العقلي، وهذا الوعي يجب أن يرافق الفرد حين انخراطه في الحياة العامة لجهة أنها قائمة أساساً على السائد من القول والشائع المفتقد للتروي والتمحيص ما ينزع عن الإنسان نزعته ونظرته الفردية شيئاً فشيئاً حتى يصبح أسيراً لمنطق الحياة العامة والأعراف والتقاليد ويفقد بذلك شخصيته وخصوصيته وهويته، ولن ينقذه ويخرجه من هذا التردي إلا وعيه المتجدد ويقظته ومراجعته لحساباته بين فترة وأخرى وأن يكون العقل هو مخبر التحليل لكل هذه المنظومات القيمية والأخلاقية والسلوكية ومركبات الوعي على وجه العموم.
إضاءات – د. خلف المفتاح