الملحق الثقافي:غصون سليمان:
أن تغوص في عمق الذاكرة ليس أمراً سهلاً، وأن ترشف من حرير الفكر دقة المعاني والمصطلحات فتلك خبرة التجربة عند مفكريها ونقادها حين يكون التقويم والإضاءة هو الأساس على مستجدات الواقع وفق تراكمها الزمني..
في ملف الملحق الثقافي والذي حمل عنوان الإبادة الثقافية بفروع مختلفة للبحث كان حديث الدكتور سليم بركات أستاذ الاقتصاد الفلسفي جامعة دمشق ينساب كمسار الجداول في موسم الخصب، فالرغبة لديه تنبع من أهمية الفكرة وخطورتها بما تحمله من أبعاد على السواء.
يوضح الدكتور بركات فيما يخص..
جانب حروب الإبادة الثقافية ..من خلال العبث بالهوية الثقافية وتشويه ذاكرة المجتمع .. أنه إذا أردنا أن نأخذ في أصل المفهوم حروب الإبادة الثقافية فهو كمفهوم ليس قديماً وإنما مفهوم محدث أخذ أبعاده في إطار ما جرى في الحرب العالمية الأولى والثانية وما جرى في هذه الإطارات تحت عناوين وطنية، اثنيات، أقليات، إرهاب إلى ما هنالك، لكن هذا المصطلح أخذ بعين الاعتبار بالنسبة للمسألة الحالية عام ٢٠٠٧ في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب، وتم وضعه جنباً إلى جنب مع مصطلح الإبادة الاثنية، ومن ثم استبداله بمصطلح الإبادة الجماعية ومازال المصطلح غير واضح حتى الآن ،وهناك الكثير من الشعوب التي تتعامل معه في هذا الإطار ضمن مقولة «كل يشد اللحاف إلى طرفه «.
لكن نستطيع القول إن أول من عرف هذا المصطلح هو روبرت جولن، الذي وضع عنوان الإبادة الإثنية كبديل للإبادة الثقافية، أي هو فكر معين يحمله شعب معين يجب أن يباد وهذا مايتوافق مع فكرة الصهيونية في يوم من الأيام ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية.
وبين الدكتور بركات أن هذا الأمر أخذ بعده تماماً في اطار المؤسسات الدولية، لكنها لم تعبر هذه المؤسسات المفهوم المذكور أو تأخذ منه قراراً أو تفسيراً نهائياً للمسألة، واندرج تحت قضايا جنائية معينة ..فمن مصلحة روبرت جولن أن يعمل ويأخذ بهذا الإطار، لأن ما تعرض له الصهاينة أو اليهود في ألمانيا يستغل في إطار السامية واللاسامية.
يؤكد الشاعر الألماني»هاينرش هانييه « منذ عام١٨٢١ العلاقة بين القتل الجماعي للبشر والاعتداء على إرثهم الثقافي، وتلك كانت مقدمات لما بعد مرحلة نابليون بو نابرت وإلى مؤتمر هرتزل عام ١٨٦٧، فلا نستطيع القول بأن الفكرة صهيونية بامتياز بل موجودة بالنسبة للشعوب عبر التاريخ، لكن التضليل الإعلامي والاستغلال الصهيوني كان سابقاً في استغلال هذه المفاهيم ونشرها على مستوى العالم خدمة لمشروعهم.
فعلى سبيل المثال هرتزل لم يكن يعرف العبرية إطلاقاً والدولة التي دعا لها هي دولة علمانية لكن حين رأى بأن الدولة العلمانية يصعب تحقيقها فحولها إلى دولة دينية وهذا تمهيد إلى نظرية الإبراهيمية التي تحصل اليوم، لأن المسألة لم تعد مقررات ولا اتفاق سايكس بيكو، ولامشروع وعد بلفور، وإنما صارت وعد «ابراهيمي».
ويشير الدكتور بركات في هذا السياق أن الإبراهيمية باتت هي السارية حالياً في إطار التطبيع، علماً أن التطبيع الذي يتم تناوله بشكل أوبآخر لايكون بين متناقضين، وإنما يكون بين مختلفين والفرق كبير هنا، فالاختلاف يمكن التوافق عليه على عكس التناقض، فبغض النظر عن كل شيء، هناك الكثير من الحدود المحيطة بالوطن العربي ومتلازمة له، لكن يوجد اعتراف لهؤلاء الذين على الحدود، مثل التركي، الإيراني،الاثيوبي الإسباني وهذه الدول المجاورة يمكن التطبيع معها بما يخدم مصالح الطرفين ،أما أن يكون التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يحتل قلب الوطن، ويغتصب الأرض، ويقتل أبناء الشعب، فهي الكارثة ..لأنٌ الاعتداء ليس فقط على الجماعة وإنما على إرثهم الثقافي والحضاري..لذلك لا يصح مفهوم التطبيع هنا.
وأشار الدكتور بركات بأن التلاعب في هذا الإطار واستهداف فئة معينة واثنية معينة هو الذي يعطي للأمور أبعادها، ويمنح الإعلام المعادي تضليلاته وتشويه القضايا التي يريد تشويهها، وبذات الوقت يعطي للمتمكن أوراقاً معينة للاختراق وزرع الفتنة .
*حرب المفاهيم
ويتابع حديثه بالقول إن ظهور هتلر دفعه لإرسال مجموعة من الاقتراحات لروبرت جولن أرسلها إلى المؤتمر الدولي الخامس لتحديد القانون الجنائي لأن المطلوب من مؤسسات الأمم المتحدة على مستوى العالم أن تحدده جنائياً طبية المفهوم..كون التضليل الإعلامي في الفكر الصهيوني لايتوانى عن استثمار قضية المحرقة وما حصل في ألمانيا، كما أن التضليل في أي بلد معين يمكن أن يحدث في إطار اثنيات معينة، لكن جميعه لا يساوي قانون جزائي إذا ماتعمقنا فيه، إضافة إلى أن الأمم المتحدة والمجالس الدولية ليس لها كلمة فاصلة بشأن هذا المفهوم، لكنه يمارس من خلال تعهدات وارتباطات دولية، كأن يقال اليوم بأن تعمل للدفاع عن مصالح أميركا، وكذلك علاقة جبهة النصرة وداعش بتركيا وأميركا ..مبيناً إن المسألة ليست في المفهوم وإنما في استخدام المفهوم لأن حربنا اليوم بالدرجة الأولى هي حرب مفاهيم كأن نقول على سبيل المثال: الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، والصحيح أن الإسلام هو الإسلام لكن المتطرف هو العقول المتشنجة في هذا الإطار، موضحاً بهذا السياق أنه يفهم الاعتدال في كلام الرسول محمد عليه السلام أنه هو الصراط المستقيم فعندما نتخلص من الأخطاء في محيط ورتوش أي مسألة يصبح الوسط هو الصراط المستقيم حسب رأيه، إذ لا توجد حالة من الخلافات إلا ويكون هناك واحد عليه الحق، والمهم هو الاختلاف في هذا الإطار.
وقال بركات: أنا لايمكن إطلاقاً في إطار المذاهب أن أفهم المذهب إلاٌ إنساني، والعقل الديني غير العقل الإنساني.. ويتابع يبلغ عدد سكان الكرة الأرضية ٨مليار و٧٠٠ مليون نسمة أي لدينا ٨مليار و٧٠٠ عقل ..ولكن نحن بالتاريخ نقول عقل يؤثر على عقل، أي عقل يتخذ مفاهيم معينة، يقنع الناس فيها، فهذا يتحول إلى مذهب، لكن المذهب هو إنساني بالتأكيد ويجب أن يبقى هكذا، فالأديان جميعها أتت بلا مذاهب، مستشهداً بالقول أنه في الوطن العربي عندما جاء الإسلام كان السباق للإيمان به هم أهل الكتاب ممن كانوا في ذاك الوقت من مسيحية ويهودية وغيرها، فالمسألة تعود لتفكير الانسان لكن هناك من يستغل هذه الفكرة في إطار التضليل الإعلامي الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية ومن يغرد في سربها حيث تتضمن جميع عمليات القمع والتنكيل ضد الجماعات من» وطنية،دينية،عرقية، وهذا مايؤكد أهمية وجود قانون جنائي ضد ممارسة السلوك الوحشي والتدمير الثقافي أو المادي الذي يمارس في هذا الاطار، مشيراً أن ما جرى من حروب دينية في أوروبا بقيت أكثر من مئة عام إلى أن أتى مارتن لوثر، قال للبابا عبارته الشهيرة « بعني جهنم» متوجهاً بعدها إلى الناس ودعاهم لعدم الخوف من البابا إذا ماهددهم بجهنم فقد اشتراها منه ولم يدخل إليها أحد، فقامت الدنيا وأقعدت في هذا العالم ضمن هذا السياق.
ولفت بركات إلى أنه لايمكننا أن نأخذ المفهوم إلا في إطار الواقع كما هو ويعالج على أساسه..مذكرا بفشل» ليمنكين « من تحقيق أهدافه رغم خطاباته المؤثرة الرنانة تجاه أنظمة دولية حتى عام ١٩٤٨ لإدراج هذه الأفكار في اتفاقيات دولية، فعندما نقول اليوم بمسألة التطبيع بين الرجعية العربية والكيان الإسرائيلي، ومجموعة التحالفات المختلفة اليوم رأينا حجم المخاطر المهددة للإرث الثقافي خلال السنوات الأخيرة، لاسيما في سورية والعراق ومالي وافغانستان، تركت بصمتها ضمن مفاهيم ، واثنيات، وحروب معينة، ماعكس سلوكيات فظيعة في درجات حروب الإبادة.
التاريخ: الثلاثاء15-2-2022
رقم العدد :1083