الملحق الثقافي – فاتن دعبول:
حال الشعر وما آل إليه اليوم، هو السؤال الذي توجهنا به إلى عدد من الشعراء، لتقديم رؤيتهم، كل من منظاره الخاص، وهل حقا مازال الشعر ديوان اللغة وحصنها المنيع؟
توفيق أحمد: البحث عن الإبداع الحقيقي
وفي اعتقاد الشاعر توفيق أحمد أن حال الشعر اليوم هو من حال صنوف الأدب الأخرى، ما يجري على هذا الجنس الأدبي، يجري على الرواية والقصة والدراسات والنقد وغيرها، الموضوع ليس محلياً بقدر ما هو واسع وربما عالمي، ولكن هناك أيضاً ولو كانوا قلة، من يتمسكون بالشعر وبكتابة الشعر، وبالهدف النبيل للشعر، بالتضحية من أجل القصيدة، إذ لا يهمهم أي بيئة سلبية وتحت أي عنوان لأنهم ينزفون من أرواحهم ما يمكن أن يؤدونه كخدمة لرسالة الشعر والمجتمع، وهم مؤمنون بصيانة هذا الفن أو الجنس الإبداعي إلى مالا نهاية.
الأحوال تتغير، وهذه هي الحياة، وكثيراً ما تغيرت النظرة تجاه الشعر، في كثير من مراحل الحياة، ولكن تعود الأمور وتستقر وتأخذ منحى جديداً، وعلينا نحن الذين نحترم الأدب وإمكانيات المبدعين جميعاً وتضحياتهم أن نقف معهم في مشوارهم وتعبهم والمضي باتجاه هدف أنقى وأجمل.
الإبداع اللافت جداً هو ليس كثيراً في كل صنوف المعرفة، ولكن هذا الأمر لا ينسحب على هذه الفترة فقط، هو ينسحب على كل الأزمنة والعصور، لا يوجد إبداع جماعي، الإبداع مشروع فردي ومواهب فردية، قد تساعد المؤسسات الخاصة والعامة مسيرة الإبداع من هنا وهناك، ولكن المبدع يخترق كل الظروف وكل المراحل ويضيء شمساً منيرة في ظلامات الحياة.
ويقول: يجب أن نستمع إلى كثير من الأشعار التي قد لا تطربنا، ولكن من الأهمية أن نستمع للجميع ونعطي الفرص الواسعة للجميع، من أجل البحث عن الذين يقدمون إضافات ملفتة في هذا المجال، فعندما تتوسع الفرصة يمكن أن نلتقط وأن نستكشف إضافات من هذا الشاعر أو ذاك، ومن هذا البلد، أو ذاك، وأملنا أن تبقى هذه المسيرة دائمة رغم ما تعانيه من صعوبات.
قحطان بيرقدار: انعكاس للواقع ومتأثر به
وعن حال الشعر اليوم، يقول الشاعر قحطان بيرقدار أنه مع اتساع رقعة الشعر في زمن» الفيس بوك» ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار المقاهي والمنتديات الأدبية وما شابه ذلك في السنوات الأخيرة، إضافة إلى أن المنابر الثقافية الرسمية أصبحت متاحة للجميع على اختلاف مستوياتهم بشكل أو بآخر، قد يلحظ المتأمل للوهلة الأولى حالة من الفوضى والعشوائية وحالة من انعدام الضوابط والمعايير على الصعيد الشعري ما بين من يكتبون ومن يتلقون، إلا أن هذه الملاحظة التي قد تتراءى للعيان سريعاً لا تصلح لاعتمادها معياراً في الحكم على حال الشعر اليوم.
فإذا نظرنا من وجهة نظر أخرى، وجدنا أن هناك صعوداً لأسماء شعرية جيدة من جيل الشباب، وأن هذه الأسماء قد بدأت تخط طريقها في درب الشعر على نحو صحيح، كما نجد أن هناك تجارب شعرية قد نضجت الآن، أو هي الآن في طور النضوج، وأن خبرتها في مجال الشعر قد تعمقت وازدادت مع ازدياد منجزاتها الشعرية، إضافة إلى الأسماء الشعرية المشهود لها في الساحة الشعرية السورية، والتي تشكل صمام الأمان للمشهد الشعري السوري.
ويضيف: نلاحظ أيضاً أن هناك تلاقحاً بين الأجيال الشعرية وانفتاحاً لدى كل جيل على الآخر، ودليل ذلك أن المهرجانات والأمسيات الأدبية التي تقام في غير منبر ثقافي تضم في صفوفها أسماء تنتمي إلى أكثر من جيل شعري، وهذا مبشر برأيي.
جمال المصري: ترسيخ للقيم
يبين الشاعر جمال المصري أن الشعر كالضوء، نراه ولا نستطيع الإمساك به، وكلمة شاعر، كلمة جذابة لذلك يحاول الكثيرون أن ينتحلوا هذه التسمية، وهؤلاء لا يقاس عليهم في الواقع الحقيقي ولا في الفضاء الأزرق.
أما الشعر الحقيقي فهو تجاوز مستمر وانتماء وترسيخ للقيم ضمن لغة مزدحمة بالأخيلة والمشاعر والمعاني والمباني التي تمتزج مع بعضها وفق تركيبة شعرية تسعى إلى بناء كائن جمالي محب للبشرية والطبيعة والحياة.
والمشهد الشعري السوري مليء بالشعراء، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الشعراء في كل العصور هم قلة قليلة وأحيانا نادرة.
وإذا كانت المأساوية تحيط بأغلبية ما يكتب من الشعر، فهذه حالة صحية جداً في مثل هذه الظروف الشديدة التعقيد، لأن الألم هو بمثابة جهاز إنذار ينبهنا إلى ضرورة المعالجة من الأمراض التي تحيط بنا.
كما أنه يوجد في المشهد الشعري الآن، الكثير من المخاضات التي تسعى إلى ولادة الطفل الشعري الأجمل.
منير خلف: يعاني أزمة حقيقية
ويرى الشاعر منير خلف أن المحتفى به» الشعر» يعاني أصحابه أو مدعوه معاناة حقيقية محفوفة بالكثير من الغموض المترهل المتعمد من قبل سالكي طريقه حسب ظنهم، كونهم استسهلوا صعود سلمه الطويل، فرأوه قصيراً، وانعكست الصورة بذلك عليهم، ولم يقدروا الإمساك بجوهره الزمردي الحقيقي الذي ينفخ فيه ويجعله كائناً حياً لا يمكن التخلي عنه.
وما يشهده المتابع في أيامنا هذه من خلال ما يتيحه الفضاء الأزرق من مجالات واسعة أمام كل مدع للشعر، أو من يجده مطية لشهرة سريعة.
وسيرى المتابع ما آلت إليه حال الشعر من أزمة حقيقية يحتاج فيه هذا الكائن السحري النبيل إلى وقت لا بأس به، لينفض الغبار عن جماله الذي لم يكشف حقيقته بعد الكثيرون، ولم يسبروا أغواره المكتنفة بجميع حالات الإنسان المعاصر الجوهرية.
فإذا ما جهل الشاعر نفسه، ولم يفقه ما يريد أن يرمي إليه، سنظل نحن القراء في تيه غامض لا نعلم فك شيفرة ما تتصدره أمام ظهرانينا دور النشر التي تتسابق على تلميع ما يرغبون فيه بغية الربح المادي البعيد كل البعد عن جوهر الأدب وسموه الروحي، وفي المقابل لا يمكن نكران وجود شعر حقيقي يسحر الألباب، ويأخذ بها إلى مصاف إنسانية افتقدنا نعيمها ونسينا تسنيمها حالمين بتفاؤل تحمله إلينا قادمات الأيام، وتظل أرواحنا في ظمأ الانتظار إلى ذلك الوعد.
إيمان موصللي: يفتقد النقد البناء
والشعر عند شاعرتنا إيمان موصللي هو همزة الوصل بين الواقع والخيال، وهو صديق ما حوله من طبيعة وتجارب وظروف تدور في فلك ما نحياه من حزن ووجع وفرح وحب وفقد، ولا يستطيع الشاعر أن ينفصل عن واقعه، ولكنه يمتلك القدرة العالية على تناول تفاصيله بطريقته الخاصة والمبتكرة.
وتضيف: الشعر في زمننا اليوم يمر في مرحلة تحوّل وصقل، فالشاعر يجب أن يجمع بين ما تعلمه وامتصه من موروث له أصالته، وبين عصر الحداثة اليوم، بطريقة تجعله لا يتخلى عن الأساس وبنفس الوقت يجاري موجة الحداثة والتجديد في القالب الشعري دون التحليق طويلا خارج السرب.
وللأسف هناك بعض التقصير من المؤسسات الثقافية المعنية بالنشاط الثقافي بشكل عام رعاية جيل الشباب ومواكبة مسيرته وإرشاده إلى المسار الأصح، وهذا لا ينفي جهود بعض المهتمين بالأدب والشعر ودعمهم الدائم للنشاطات والفعاليات.
وأكبر مشكلة تواجه الشعر اليوم هي افتقاد الساحة الثقافية للنقد البناء والمدروس، فالنقد يجب أيضاً أن يجدد منظوره للشعر، وعلى الناقد أن يكون موضوعياً ومثقفاً، بحيث يغني النص الشعري ويثريه، القلة القليلة في واقعنا يجيدون فن النقد بحرفة عالية.
أحلام بناوي: ليس بخير
ومع كثافة ما نراه اليوم من الشعر من غثه وثمينه، تقول الشاعرة أحلام بناوي أنه لا نستطيع أن نقول إن الشعر بخير، كما أننا لا نستطيع القول إن كل ما يطرح للمتلقي هو شعر حقيقي.
كان العرب في الماضي يقولون إن» كل مئة عام يولد شاعر» بالرغم من فصاحة العرب، كبيرهم وصغيرهم، إلا أنهم كانوا يعتبرون الشعر منزلة عليا لا يبلغها أي كان، واليوم نجد كثافة عالية في المادة المطروحة على أنها شعر، إلا أنه في الواقع لا ينطبق لفظ الشعر إلا على قلة قليلة منها، وفي هذه القلة القليلة يتجسد شعر حقيقي يحمل روح الحداثة مع المحافظة على الأصالة والهوية الثقافية العربية رغم الانفتاح والتأثر الجميل بالآخر.
وما يثير الانتباه في الشعر اليوم هو عودة اهتمام العنصر الشاب بأهمية الأدب وضرورة عودتهم إلى الأصالة ليبلغوا الحداثة على أسس متينة قوية، وإن صدق الشاعر كعب بن زهير» ما أرانا نقول إلا رجيعاً ومعاداً من قولنا مكروراً» فإن بعض التجارب الشعرية اليوم استطاعت أن تأت بهذا الرجيع من القول بصيغة لافتة وحداثوية تستحق أن تسمى شعراً.
خلود قدورة: الاستسهال يقتل الشعر
تقول الشاعرة خلود قدورة إن الشعر كان منذ بداياته كغيره من الفنون الأدبية، يشكل انعكاساً للواقع بصيغ جمالية وفنية، وعلى هذا فإنه اليوم لن يكون بأحسن حالاته، لطالما تعيش المجتمعات العربية أزمات وتحديات على جميع الأصعدة، وقد انعكس هذا على الشعر بشكل جلي، ومن أكثر ما يسوء الشعر في هذه الأيام هو الاستسهال الذي ينال من جودة الشعر وسهولة انتشار الرديء منه بسبب الانفتاح التكنولوجي الواسع، بالإضافة لأزمة النقد المتأثر بالمدارس الغربية بشكل كبير، والذي جعل بعض الشعراء يتجهون لكتابة ما يرضي جمهور النقاد، فتبدو القصيدة حجراً مزخرفاً وبأبهى حالاته لن يستطيع النطق.
فالفهم الخاطىء للحداثة_ المطلوبة حتماً_ جعلها تحوّر بالشكل دون المضمون ما جعل الكثير من النصوص هزيلة هشة.
كل هذه المعطيات شكلت شرخاً واسعاً بين الشعر والقارىء العربي الذي لم يعد يجد في الشعر ما يحاكي واقعه أو يرضي تخيلاته، بل في أكثر الأحوال يجد طلاسم عصية على الفهم والإحساس، فلا يجوز التعاطي مع الشعر على أنه حكر على الأدباء والنقاد، فتقديمه بطريقة جمالية سلسة بعيدة عن التعقيد يجعله أقرب للقارىء، ويعيد له مجده ويغير الصورة الذهنية المنتشرة التي تشكل رفضاً مسبقاً من الناس الذين غالباً ما يشعرون بأن هذا المنتج الأدبي بعيد كل البعد عنهم، فيميلون لغيره كالرواية مثلاً التي تلقى رواجاً كبيراً بين الناس، وهذا ما يجعلنا نفكر ملياً قبل إلقاء المسؤولية على عاتق الجمهور واتهامه بأنه لا يقرأ.
لكن لنكون منصفين فإن هناك على الضفة الأخرى ما يبشر بالشعر، فرغم كل التحديات التي تواجهها القصيدة الأصيلة اليوم، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن هناك نتاجاً وفيراً من الشعر الجميل الذي استطاع إمساك العصا من المنتصف والموازنة بين الحداثة والأصالة بما يرضي الذائقة، واللافت للنظر أن بعضاً من صانعي هذا الشعر هم من جيل الشباب الذين تمسكوا بجذور الشعر ورفضوا الانسياق وراء عشوائية التجديد، بل أدخلوا على القصيدة صوراً حداثية بديعة، ولم يجدوا في القالب الموزون قيداً.
ومن الأمور الإيجابية أن وسائل التواصل الاجتماعي، جعلت هؤلاء الشعراء يلتفون في الواقع الافتراضي رغم المسافات، ويتبادلون الآراء ويستفيدون من تجارب بعضهم بعضاً، لتكون هذه الإيجابيات الموجودة حالياً بمثابة قوة يتكىء عليها ليظل واقفاً على أمل أن يستعيد كامل قواه وألقه.
العدد 1087 التاريخ: 15/3/2022