الملحق الثقافي – سلام الفاضل:
حينما تنهدم النفوس تُصلح ذاتها بالشعر، وتُرمم بنيانها بعبق الكلمات الموزونة وجميلها، فتستعيد الروح أُلفتها، ويستعيد القلب صوت نبضه، ويشرّع الفؤاد نوافذه ليطل على مروج من ألق.
فالشعر كان ديوان العرب الذين خطوا حروفه بمهجهم، ونثروا على بياض صفحاته أساطير عشقهم، ولوعات قلوبهم، وأمجاد حروبهم، وجلجلة مديحهم أو ذمهم، وعلى شرفه عُقدت المجالس، وأقيمت الأسواق، ومُنحت العطايا، وتناثرت الهبات، فكان يُعزُّ به من يشاء، ويُذلُّ به من يشاء. ولكن هل ما زال الشعر يحمل اليوم هذا الوقع؟ وهل ما زال كائناً أديباً يُحتفى به، ويهلل الناس لناظميه؟؟
سؤال طرحناه، وشعراء العالم يحتفلون في هذه الآونة باليوم العالمي للشعر الذي يصادف في ٢١ آذار من كل عام، وفي الإجابة عنه رأى رئيس فرع القنيطرة لاتحاد الكتّاب العرب الشاعر د.جمال أبو سمرة: «إن العالم يحتاج إلى الشعر، فهو آية كمال الأرواح واكتمالها، والقادر على التخفيف من قبح هذا العالم، بل القادر على إضافة مساحات من الجمال إليه، أمام الرغبات الجامحة في اختلاق الحروب والدمار والحطام…». وأردف: «وأن تقول شعراً يعني أن توسّع هذا المدى كثيراً، وأن ترفع سقف العالم فيصبح أرقى وأعلى وأنقى، فيتدفق الإلهام والخلق والعطاء على حساب اليباب والاستلاب…».
أما الشاعر أوس أحمد أسعد فإنه يفتتح إجابته عن هذا السؤال بمقولة الأديب الروسي الكبير «دوستويفسكي»: (لن ينقذ العالم سوى الجمال)، موضحاً أن تعاقب فصول السنة، وضياء الشمس، وتدرجات تشكّل القمر من طفولته، وحتى اكتمال رشده كبدر، ما هي سوى تحيات وحفاوات شعرية، وأن الاحتفاء بالشعر وبيومه يعني في أقل تقدير أن الإنسان من حيث الجوهر لم يستلبه التشيؤ، بشكل كامل، أمام فورة التقانات الذكية، وسيطرة القيم الاستهلاكية لمجتمعات الفرجة على كل شيء. ويتابع: «وهذا إذاً فأل جيد، وهو اعتراف إنساني بحقيقة الشعر الجوهرية بوصفه حالة لصيقة بالجوانية البشرية، والأعماق السحيقة التي يستحضرها الكائن كلما فاء إلى إنسانيته وكينونته، ومعنى ذاته ككائن منتج للجمال والفن… وعليه تأتي الحفاوة بالشعر في هذه المرحلة العالية التلوث والقبح كاعتراف عالمي له صفة الديمومة بقيمته الجوهرية، وضرورته الوجودية لكائن مهشم الروح أدمته الحروب والأوبئة، والمجاعات وكل أشكال الفتك، وأوصلته إلى حواف الهاوية، بل أسقطته عميقاً في جوفها المظلم…».
ولكن أمام هذا كله، وأمام هذه المكانة الكبيرة التي يحتلها الشعر في النفس الإنسانية، هل ما زال الشعر بخير؟ وهل ما زال له عاشقون ومريدون، ولا سيما أننا بتنا اليوم في عصر متغيّر الأهواء، والميول، وأمام قارئ ملولٍ ذي نَفَس قصير؟ د.جمال أبو سمرة يعقّب على ذلك بالقول: «الإجابة في الحقيقة ستبدو منقوصة، ولا فائدة منها ما دامت لا تركن إلى سؤال أكثر جدوى؛ ألا هو: هل النقد بخير؟ هل ثمّة نقّاد يرصدون المشهد الثقافي، ولا سيّما الشعري منه، ليفرزوا الغثَّ من السمين في هذا الزحام، بل الركام مما قيل ويقال، في بطون الكتب وجدران (السوشال ميديا)…». ويضيف: «غير أن الإجابات الانطباعيّة تقودنا إلى القول: إن المشهد اليوم يختلط، مع تغيّر أنماط التلقي والتداول الأدبي، إذ لم تعد الذائقة التي تتلقى قادرة على استيعاب المنتج الأدبي بوسائله الشفاهية البدائيّة، خاصّة أنّها تميل إلى النصوص السريعة القصيرة، التي تحتفي بالآني والزائل والمباشر على حساب الإدهاش والتكثيف والابتكار…». مبيّناً في ختام كلامه: «إن الشعر، مع هذا، سيبقى في ملكوت الإبداع الأعلى، ما دام كلُّ الناس حتى ممّن لا يملكون الموهبة، أو من أنصاف الموهوبين يطمحون إلى أن يصبحوا شعراء، وأن يُطلق عليهم لقبَ الشاعر… ومن هنا ندرك أن للشاعر هالته التي لا تنطفئ، وتبقى محتفظة بأسرارها الغامضة التي لا تنكشف إلا لأصحاب الرؤى والمشاريع الإبداعيّة».
بدوره يؤكد الشاعر أوس أسعد أنه ونتيجة لكل ما قيل: «فالشعر اليوم ليس في أسوأ حالاته، بل هو في أعلى حالاته الدرامية، إذ لا يليق بكائن الحروب سوى المراثي..». ويتابع: «وعليه، كي تشرق شمس الشعر، وتحلق طيوره من جديد فلا بد أن يكافح الشعراء لإعادة ترميم معادلة الشعر المهدورة، والنضال لوضعه على سكته الصحيحة انتصاراً للجمال ضد القبح، وللحياة الجميلة ضد العدم والعبثية والمجانية، وللبناء ضد الهدم..إلخ. وبذلك تستقيم الحياة، وتمتدح إلى الحد اللائق بإنسانيتها الحقيقية».
وفي الختام نستطيع القول إن الشعر وإن خفت نجمه، أمام ازدهار أجناس أدبية أخرى قد تفي من وجهة نظر الكثيرين بمتطلبات العصر الحديث، إلا أن حالة الإدهاش النفسي المشبعة بالصور الرائعة، والتراكيب المتقنة، والرموز المدهشة لن يستطيع سوى الشعر، والشعراء تحقيقها، فكل عام والشعر وشعراء العالم بألف خير.
العدد 1087 التاريخ: 15/3/2022