رسائل إلى شاعر ناشىء.. لماذا نكتب ..؟

 

الملحق الثقافي:

في عام 1903عندما كان الشاعر ريلكه في أوج شهرته ومكانته الأدبية العالمية، وكان في سن الثامنة والعشرين، مرّ بمرحلة من الضجر أو الخمول الإبداعي، فجمعته مراسلات مع كبار الأدباء والفنانين، تزجية للوقت وتحفيزاً لنشاطه الفكري والإبداعي، وهذا لم يمنعه من رسائل أيضاً مع شبان مغمورين وشعراء ناشئين، وكان من ضمنهم فرانز كابوس، الذي ستصبح رسائل ريلكه إليه مرآة كونية تنصهر فيها الأنا مع الآخر، التي ستعتبر في ما بعد من أهم منجزات ريلكه الفكرية والفلسفية.
لم تكن مجرد رسائل أو كتاب يتضمن أدب المراسلات مع شاعر شاب، بل تمحور الكثير من الرسائل حول مواضيع جوهرية تلامس الإنسان والمصير الإنساني، نابعة من رؤية ريلكه الفلسفية العميقة في الحياة، ومن حدسه وتأملاته في الأشياء والموجودات، أضف إلى ذلك طاقة كبيرة تنفجر من وعي ريلكه الحاد وفكره السامي في تقديس الحياة وحبها، فالحياة دائماً على حق حسب تعبير الشاعر، وما يحدث للإنسان من أمراض وحروب وقلق وكآبة هي مجرد تحولات كبرى، تعقبها ولادات جديدة، والحياة تحول دائم كل جيد أو سيىء هو تحول أيضاً، فالأشياء يجب أن تحدث وأن تمر على الإنسان، دون تدخل العقل في إصدار الأحكام والمحاكمات، بل لا بد أن يكون مراقباً ذكياً لتمرحل الإنسان في دوامة الحياة الشائكة والمعقدة، كما أنه يؤكد على قوة الإرادة الإنسانية، تلك الإرادة التي تبقي الإنسان حراً رغم القيود التي تكبل العالم والبشر. يركز ريلكه كثيراً في إجاباته عن رسائل الشاعر الشاب فرانز كاوبوس على مفهوم فرح الكينونة والتسليم باللحظة الراهنة خارج الزمن، التي من الممكن أن تصبح لحظة أبدية في حياة الإنسان. «يجب أن تعيش الحياة لأقصى حد، ليس بناء على كل يوم، ولكن بناء على عمق كل يوم».

8.jpg

الإيمان الحقيقي والعميق بفكرة ترافق الإنسان طيلة حياته، قد يمنح حياة المرء إشراقاً وإيقاعاً ساحراً، عكس اللهاث المستمر وراء الالتماعات الكاذبة، والانجرار إلى أفخاخ ينصبها الوهم في خريف العمر. نستطيع أن نرى هنا كم بلغت بصيرة ريلكه من الغزارة والاتساع العظيم، فصار يرى في الفن والجنس تكاملاً إبداعياً، وشهوة معرفية قادرة على الخلق والولادة، سواء أكان في الجسد أم الروح، فكلاهما يتساوى في الغاية الوجودية والمعرفية. يعبر ريلكه بطريقة عدمية استثنائية عن امتنانه العظيم للحياة وعن فرح الكينونة الذي يجب أن يغمر الإنسان حتى في أقصى حالاته تشاؤماً وكآبة.
«إلهي كم تكمن روعة الحياة تحديداً في عدم قدرتنا على توقعها، وفي الخطوات الغريبة النابعة من عمى أبصارنا أحياناً. خلقت هذه الحياة بصدق شديد لكي تفاجئنا،لا لترعبنا. ينبغي على المرء تحويل أكبر إمكانية في داخله إلى مقياس حياته، لأن حياتنا فسيحة جداً، للحد الذي يمكنها أن تسع أكبر قدر ممكن من المستقبل الذي باستطاعتنا تحمله».
يصف ريلكه في إحدى رسائله، أن الحزن وجود غريب يتسلل إلى بقعة حساسة فينا، شيء جديد ومجهول تنمو مشاعرنا خلاله في صمت وارتباك محرج، فالحزن يمر بنا بسبب ذلك الوجود الذي أضيف إلينا وولج إلى قلوبنا، وغاص إلى أعماقنا، فلم يعد بالإمكان تمييزه.

لماذا نكتب وما الدافع الحقيقي للكتابة؟
تبتدىء أولى رسائل ريلكه إلى الشاعر الشاب في باريس 17 فبراير/شباط 1903
بالتأكيد على الدافع الحقيقي للكتابة، فهو يطلب منه ألا يسأله، وألا يطلب منه النصح والمساعدة، بل عليه أن يلتفت إلى ذاته، وملاحظة هل هذه الكتابة ترسل جذورها إلى الأعماق؟ اسأل نفسك هل ستموت لو حرمت منها؟ إن العمل الفني رائع فقط لو نشأ من دافع الحاجة. في هذه الرسالة ومعظم الرسائل يؤكد ريلكه على الشعرية وأن تحيا شعرياً على هذه الأرض وفي الأعماق، فالشعر الذي يبقى ملاصقاً للكينونة وحركة الأشياء من حولنا يمنحنا النضج المختلف والوعي الصافي النقي، والإدراك المتوهج، إنه الوجود المثالي الذي تخلقه المخيلة العظيمة، ويبقى مرادفاً وملاصقاً للوجود اليومي والمعاش، حتى في أدق وأبسط التفاصيل اليومية. إضافة إلى ذلك فالكتابة عند ريلكه أيضاً عبارة عن خبرات متراكمة من القراءات والتجارب الشعورية والحسية، والوقوف الحقيقي عند حافة الخطر، ومواجهة الصعاب، ومن هنا تنشأ بذرة الإبداع الذي يغذيه الجوع المعرفي والأسئلة الوجودية الكبرى. كما أنه لا يخفي تأثره العميق وإعجابه الدائم بكتاب وفنانين منحوه الخبرة وخلود الإبداع مثل الروائي والشاعر الدنماركي جيكبسون والنحات الفرنسي روداين.
وفي رسالة مؤرخة بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 1903 ينصح ريلكه الشاعر الشاب فرانز كاوبوس أن يكون قريباً من الجمادات في وحدته، وأن يربي عزلته الباطنية الفسيحة مع هذا السكون الغامض والمؤلم، الذي ينبض في قلب الأشياء وجمودها المخيف، وهذه أيضاً إحدى تجارب ريلكه الشعرية العظيمة في تحويل الجمادات إلى رموز شعرية ونفسية.

عزيزي السيد كاوبوس:
إن لم يكن هناك ما يمكنك مشاركته مع الآخرين، فحاول أن تكون قريباً من الجمادات، فهي لن تهجرك، وستظل هناك الليالي والرياح التي تتحرك عبر الأشجار وفوق الأراضي، كل ما في العالم من جمادات وحيوانات مازالت مملوءة بالأحداث التي يمكنك أن تكون جزءاً منها.

الحزن واليقظة الداخلية

يصف ريلكه في إحدى رسائله، أن الحزن وجود غريب يتسلل إلى بقعة حساسة فينا، شيء جديد ومجهول تنمو مشاعرنا خلاله في صمت وارتباك محرج، فالحزن يمر بنا بسبب ذلك الوجود الذي أضيف إلينا وولج إلى قلوبنا، وغاص إلى أعماقنا، فلم يعد بالإمكان تمييزه، إنه في مجرى دمنا فعلياً، فالحزن هو لحظات من التوتر نشعر بها كالعاجزين؛ لأننا لم نعد نصغي لعواطفنا المدهشة والمفعمة بالحياة.
لكن ريلكه لم يستسلم للحزن وطاقته التدميرية، بل على العكس إنه يؤنسن الحزن، ويضفي عليه طابعاً سحرياً وجمالياً، فهذا الوجود المرعب والغريب الذي سكن أعماقنا وبدأ بتغيير مسارات حياتنا، عندما يبدأ بالخروج منّا إلى الآخرين، سوف نشعر بمدى قوة علاقتنا وقربنا منه في دواخلنا، ونكتشف بأن ما حدث معنا لم يكن غريباً عنا ومن الخارج، بل كان ملكاً لنا في الأصل منذ مدة طويلة.

عزيزي السيد كاوبوس:
«لقد مررت بالعديد من الأحزان الثقيلة وها هي قد مضت، ولكنني أريدك أن تسأل نفسك ألم تُزل هذه الأحزان الثقيلة في الواقع بإرادتك أنت؟ ربما تغير العديد من الأشياء في داخلك، لقد خضغت لتغيرات خطيرة بينما كنت حزينا. كل المشاعر التي تجتمع عليك وتسمو بك هي نقية حتماً. وحده غير النقي هو ذلك الشعور الذي يدرك جانباً واحداً من كينونتك فيشوهك. لهذا السبب من المهم جداً أن تكون منعزلاً ويقظاً عندما تكون حزيناً».

العدد 1087 التاريخ: 15/3/2022

آخر الأخبار
New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق The national interest: بعد سقوط الأسد.. إعادة نظر بالعقوبات على سوريا بلدية "ضاحية 8 آذار" تستمع لمطالب المواطنين "صحافة بلا قيود".. ندوة لإعداد صحفي المستقبل "الغارديان": بعد رحيل الديكتاتور.. السوريون المنفيون يأملون بمستقبل واعد باحث اقتصادي لـ"الثورة": إلغاء الجمرك ينشط حركة التجارة مساعدات إغاثية لأهالي دمشق من الهلال التركي.. السفير كوراوغلو: سندعم جارتنا سوريا خطوات في "العربية لصناعة الإسمنت" بحلب للعمل بكامل طاقته الإنتاجية الشرع والشيباني يستقبلان في قصر الشعب بدمشق وزير الخارجية البحريني عقاري حلب يباشر تقديم خدماته   ويشغل ١٢ صرافا آلياً في المدينة مسافرون من مطار دمشق الدولي لـ"الثورة": المعاملة جيدة والإجراءات ميسرة تحسن في الخدمات بحي الورود بدمشق.. و"النظافة" تكثف عمليات الترحيل الراضي للثورة: جاهزية فنية ولوجستية كاملة في مطار دمشق الدولي مدير أعلاف القنيطرة لـ"الثورة": دورة علفية إسعافية بمقنن مدعوم التكاتف للنهوض بالوطن.. في بيان لأبناء دير الزور بجديدة عرطوز وغرفة العمليات تثمِّن المبادرة مباركة الدكتور محمد راتب النابلسي والوفد المرافق له للقائد أحمد الشرع بمناسبة انتصار الثورة السورية معتقل محرر من سجون النظام البائد لـ"الثورة": متطوعو الهلال الأحمر في درعا قدموا لي كل الرعاية الصحية وفد من "إدارة العمليات" يلتقي وجهاء مدينة الشيخ مسكين بدرعا