تؤسس للوعي الإنساني وتصنع مستقبل الأمّة

الملحق الثقافي – فاتن أحمد دعبول:

لا شك أن المجتمعات ترتقي وتزدهر بقدر وعي أبنائها، وهذا يتناسب طرداً مع مسيرة تقدمها وتطورها، فكلما زادت نسبة الوعي عند أفراد المجتمع، انعكس ذلك على نمو المجتمعات وساهم في بناء الدول على أسس متينة.
ولا يختلف اثنان على أهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية في عملية بناء ووعي المجتمعات الإنسانية، فمن خلالها تؤسس كل دولة معايير علاقاتها داخلياً وخارجياً، إن كان لجهة العلاقات الاقتصادية أو السياسية أو الديبلوماسية، أو لجهة منهجية كل دولة في تعاملها مع مكونات الحياة جميعها، وهذه العلاقات على تنوعها يحددها وعي الإنسان المتشكل تجاه هذه الظواهر، والعلوم الإنسانية هي المسؤولة عن تشكيل الوعي الإنساني من خلال دراسة الظواهر الإنسانية من عادات وتقاليد وقيم مجتمعية عبر فنون الأدب وعلم الاجتماع والتاريخ وعلوم الفلسفة والحكمة.
فما هو دور العلوم الإنسانية في بناء الوعي وكيف يمكن استثمار هذه العلوم في عصرنا الراهن، وما أحوجنا إليها؟ سؤال توجهنا به إلى عدد من الباحثين للوقوف عند أهمية هذه العلوم ودورها في النهوض بالمجتمعات، فكانت هذه الإضاءات الجديرة بالبحث والتأمل.

د. حسين جمعة: أصل الوعي

كل من اطلع على الآداب والعلوم الإنسانية وتعمق في فلسفتها، وجد أنها هي الأصل في تكوين وعي الإنسان لوجوده ولذاته والكون الذي يحيط به، فمن منا ينكر أثر الفلسفة التي جسدت دائماً الرؤية الفكرية لفهم الوجود، ومن منا ينكر قيمة علم الاجتماع في تفسير حياة السكان وبناء العمران منذ أن أوجده ابن خلدون في مقدمته الشهيرة والتي ماتزال تشكل مرجعية حتى يومنا هذا.
ومن ذا الذي يمكن أن ينكر قراءة الملاحم اليونانية” الإلياذة والأوديسة” التي ضمت هذه الملاحم لنفهم حقيقة التفكير الإنساني لدى اليونان القديم، ومن ذا الذي ينكر على الهنود حكمتهم وفلسفتهم التي كانت أصلاً من أصول التفكير البشري للتطلع إلى حقيقة الوجود وفهمه.
ومن ذا الذي ينكر علينا نحن العرب ما أنتجه العقل القديم من إبداع شعري فني راق أصله اللغة والصورة، واللغة هي وعاء التفكير والمشاعر، ومن ثمة أصبح هذا الشعر الذي يقابل العلم في المفهوم الفني، أصبح ديوان العرب الذي يتحدث عن أيامهم وأنسابهم وأخبارهم وأحسابهم والأيام التي كانت لهم.
الشعر كان هو التاريخ والجغرافية وعلم الاجتماع وفلسفة حياة، ومن ذا الذي ينكر على الآداب الحديثة ما ساد فيها من قصص وروايات تتحدث عن حياة المجتمعات وعاداتها وقيمها من خلال تشخيص هذه الحياة وواقعها بأسلوب فني راق تسميه القصة والرواية والمسرحية والسيرة وغير ذلك.
الشعر فلسفة حياة
إذا العلوم الإنسانية المتعددة والمتنوعة” تاريخاً، وعلم اجتماع وفلسفة وأدباً” كل ذلك يؤصل وعي الإنسان ويطوره تبعاً لمواكبة التحولات الفكرية والنفسية التي تشتمل عليها العلوم والآداب الإنسانية، ويكفي فقط أن نشير إلى أن الأدب العربي مثّل الشخصية العربية بعاداتها وتقاليدها وأفكارها في كل عصر من العصور.
فالأدب الجاهلي صورة لأهله في الجاهلية، منه نأخذ طبيعة حياتهم كما عبر عن ذلك الكتّاب والمؤلفون أمثال أحمد الحوفي في كتابه” الحياة العربية من الشعر الجاهلي” أو الدكتور المرحوم علي الجندي في كتابه” الحرب من الشعر الجاهلي”.
وفي العصر الإسلامي وجدنا الأدب يمثل قيم الدعوة الإسلامية وقيم الحياة الجديدة بأسلوب أدبي راق، تناوله الشعراء كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم من شعراء الدعوة.
وتناول الأدباء والكتّاب والباحثون ذلك في كتب عديدة، وكان هذا الأدب الإسلامي يعبر عن حياة أهله، وهي حياة اختلفت عما كانت عليه في الجاهلية، وهذا ما يمكن أن نقوله أيضاً عن الأدب الأموي والعباسي وحتى في عصرنا الراهن.
الأدب اليوم صورة عما نؤمن به من أفكار، ويبني وعينا للماضي والحاضر، ويؤسس لوعي جديد مستقبلي على صعد شتى، ومن هنا نجد مثلا أن الشعر آخر ما تفتقت عنه الذهنية العربية الإبداعية هو” النثيرة” وهي تختلف عن شعر التفعيلة والشعر العمودي المعروف، وهي تبني وعي الإنسان وعياً جديداً وفق ما كونته مواكبة الحياة ومواكبة الحداثة وما بعد الحداثة.
صانعة حياة
إذاً نحن نستفيد مما أشرنا إليه أن الأدب خاصة والعلوم الإنسانية من علم التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، هذه العلوم جميعها هي التي تؤسس دائماً وأبداً لأفكار صانعة للحياة، وهي التي تصنع أقدار الأمة.

د. إبراهيم زعرور: العرب رافعة حقيقية للحضارة الإنسانية

من الصعب بل من المستحيل أن يستطيع الدارس أو الباحث أو من في حكمهما أن يستطيع ببعض كلمات وجمل ومفردات ومصطلحات، الإحاطة الشاملة والدقيقة بدور العلوم الإنسانية في بناء الوعي، وبالتالي لابد من الإشارة وبشكل موجز لطبيعة الحياة الإنسانية والتوجهات الفكرية والثقافية للشعوب وحضاراتها وتاريخها وخصائصها وفق المعطيات عبر التاريخ الطويل للبشرية.
فهناك من المفكرين والباحثين المنتمين إلى الغرب وأميركا من يذهب للقول بصراع الحضارات أمثال هنغتون، ومن من يقول بنهاية التاريخ وغير ذلك، وهناك من المفكرين والفلاسفة والمؤخرين والباحثين والدارسين من يقول بحوار الحضارات، بمعنى لا يمكن لأي حضارة إلغاء الحضارة الأخرى لأي شعب من الشعوب، ولابد من التكامل الحضاري الإنساني والاعتراف بفضل كل شعب من الشعوب بتقديم منتج حضاري وهو ذو صفة إنسانية، حيث قدم العرب الأبجدية الأولى” أوغاريت” والحرف الأول والنقش الأول والنوتة الموسيقية الأولى والقانون الأول” حمورابي” والعمارة الأولى، وكانت متاحة لكل الشعوب، وتتكامل مع حضارة اليونان والرومان وفارس وسواها من حضارة الصين والهند واليابان ومن في حكمهما.
وهنا يظهر لنا بوضوح دور العرب الحضاري في صدر الإسلام، والذي شكل رافعة حقيقية للحضارة الإنسانية، فالعرب الذين تواصلوا حضارياً في صدر الإسلام، حيث كان العلماء والمبدعون والمفكرون والفلاسفة العرب من أمثال” ابن رشد، ابن النفيس، أبو بكر الرازي، الفارابي، أبو العلاء المعري، ابن خلدون والزهراوي وابن الهيثم وابن زهر وسواهم الكثير من العلماء الذين شكلوا النهضة الحضارية الإنسانية والتي انتقلت إلى أوروبا، عبر التأثير المباشر أو غير المباشر بالترجمة والمدارس العلمية الفكرية، من خلال وجود العرب في الأندلس وشبه الجزيرة الإيبيرية، والتي شكلت البنية التحتية لنهضة أوروبا في القرن الخامس عشر، وبالتأكيد أفاد علماء الغرب وأضافوا الكثير من النظريات المعرفية والإبداعات الفكرية والعلوم التطبيقية.

حجر الأساس
وهكذا تأثرت الحضارات ببعضها البعض، وأفادت من بعضها ليتكامل المشهد الحضاري الإنساني، ويقدم كل ما هو مفيد للإنسان في كل مكان وزمان، ولعل هذا التمهيد الضروري للتنويه عن الحوار الحضاري لخدمة الإنسانية هو الأساس في التطور الحضاري الذي شهدناه ما بعد نهضة أوروبا، وإن كانت ثمة توظيفات ليست ذات طبيعة إنسانية كظهور الاستعمار وأساليب الهيمنة والسيطرة ونهب ثروات وموارد الشعوب ومصادرة إراداتها، وهو ما شكل التاريخ الأسود للدول الأوروبية الاستعمارية والعثماني وسواهما.
ولم يتم هذا التوظيف لصالح الشعوب في قارات العالم المختلفة، ولعل العلوم الإنسانية المرتبطة بالفكر والفلسفة والنظريات الإبداعية في السياسة وعلم الاجتماع والفنون على تنوعها وتعددها، هي حجر الأساس في بناء الوعي الإنساني على أهمية العلوم التطبيقية التي جاءت لاحقة للعلوم الإنسانية، والانتقال إلى عالم التقنيات العلمية وثورة المعلومات والعالم الإليكتروني بكل أبعاده والصناعات الكبيرة والتطور العمراني والبنى التحتية والتي عادت لتشكل مشكلات إنسانية لهيمنة بعض الدول في مقدمتها الغرب وأميركا على الشعوب الفقيرة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وهو ما يتعارض مع الطبيعة البشرية، حيث أنتجت هذه الأفكار وسواها من الممارسات غير الأخلاقية لزرع التخلف والتجزئة والانقسامات التي انعكست سلباً على الشعوب آنفة الذكر، ولازالت قائمة إلى يومنا هذا.
التمسك بالهوية
وهذا يقودنا بالضرورة للحديث إلى أهمية العلوم الإنسانية في بناء الوعي، كالتربية والتعليم والمناهج والإعلام والخطاب الثقافي بعيداً عن الهيمنة الأميركية وأوروبا على مستقبل الشعوب، ويظهر جلياً وبوضوح مسؤولية العلوم الإنسانية ودورها بالكشف عن الكثير من الجوانب التاريخية في حياة الشعوب الفقيرة المستضعفة والمفكرين والمثقفين والعلماء الذين التزموا قضايا أوطانهم بوضع المناهج التربوية والتعليمية والثقافية في المؤسسات المعنية في المدارس والجامعات ومؤسسات الثقافة الوطنية لبناء الوعي لهذه الشعوب في التمسك بحضارتها وتاريخها وثقافتها وهويتها ذات الطابع الإنساني، وهو الحق الطبيعي لها في ذلك، والدفاع المشروع عن هذه الخصائص لتعزز حالة الوعي.
الإعلام في مواجهة الهيمنة العدوانية
ويقوم الإعلام بدور أساس في نقل الخطاب الثقافي الفكري لمواجهة قوى الهيمنة والتسلط وفرض الإرادة على هذه الشعوب، وهي توظيف أخلاقي ومشروع لمن يمتلك هذه العلوم الإنسانية بكل مفرداتها السياسية والاجتماعية والتربوية، تعزيزاً لوجود المجتمع المتكامل، وطبيعي جداً أن تذهب هذه الأفكار لخدمة الشعوب، وليس لتطويعها لخدمة الآخر وتوجهاته تحت عناوين ومسميات وذرائع، بهذا المعنى يمكننا القول إن الأديان والمذاهب والطوائف والمعتقدات والأيديولوجيات والأحزاب والأفكار وغيرها، يجب أن تكون في خدمة الأوطان والشعوب، وليس بالعكس، بمعنى آخر، لا يجوز أن تستجيب العلوم الإنسانية لإرادة الآخرين الذين يحاولون الهيمنة والسيطرة والنهب لموارد وثروات الشعوب، وتزوير وتزييف الحضارات والتاريخ، وثقافة الشعوب التي تتمسك بأفكارها وعلومها وإبداعاتها، سواء كانت العلوم النظرية والتطبيقية، وهذا شأن مرتبط بوعي هذه الشعوب وأدواتها لرفض كل أشكال الهيمنة وإلغاء دورها الحضاري والتاريخي والإنساني، ومن يملك الوعي الحقيقي يستطيع النهوض بأمته ووطنه ومجتمعه، والصراع اليوم صراع إرادات كما كان بالأمس البعيد والقريب.

العدد 1089 التاريخ: 29/3/2022

آخر الأخبار
الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار "أموال وسط الدخان".. وثائقي سوري يحصد الذهبية عالمياً الرئيس الشرع  وعقيلته يلتقيان بنساء سوريا ويشيد بدور المرأة جعجع يشيد بأداء الرئيس الشرع ويقارن:  أنجز ما لم ننجزه الكونغرس الأميركي يقرّ تعديلاً لإزالة سوريا من قائمة الدول "المارقة"   أبخازيا تتمسك بعلاقتها الدبلوماسية مع السلطة الجديدة في دمشق  إعادة  63 قاضياً منشقاً والعدل تؤكد: الأبواب لاتزال مفتوحة لعودة الجميع  84 حالة استقبلها قسم الإسعاف بمستشفى الجولان  نيوز ويك.. هل نقلت روسيا طائراتها النووية الاستراتيجية قرب ألاسكا؟       نهاية مأساة الركبان.. تفاعل واسع ورسائل  تعبّرعن بداية جديدة   تقدم دبلوماسي بملف الكيميائي.. ترحيب بريطاني ودعم دولي لتعاون دمشق لقاء "الشرع" مع عمة والده  بدرعا.. لحظة عفوية بلمسة إنسانية  باراك يبحث الملف السوري مع  ترامب وروبيو  مبعوث ترامب يرحب بفتوى منع الثأر في سوريا   إغلاق مخيم الركبان... نهاية مأساة إنسانية وبداية لمرحلة جديدة  أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان