من العالم.. إدغار موران: مازلت أتعلم

الملحق الثقافي:

هي تجارب يجب أن يطلع عليها المثقف العربي أينما كان وكيفما كان حاله، ولاسيما أولئك الذين يدعوم أنهم ختموا العلم بلا حدود، إدغار موران فيلسوف فرنسي وصل المئة من عمره، بمناسبة عيد ميلاده الماضي كان هذا الحوار معه، والذي ترجمه إلى العربية يحيى موافي، ونشرته مجلة الدوحة.
في شهر /أيلول عام 2021م عاد «إدغار موران» للتو من «الدوامة الإعلامية» الخاصة بعيد ميلاده المئة، بعد أن قام بجولة على بلاتوهات التليفزيون والإذاعة مستجيباً دون توقف لزميلاتنا الصحافيات وزملائنا الصحافيين، كان استقباله لنا عبر تقنية التناظر الرّقمي، حيث يخلد إلى الراحة منذ بضعة أسابيع.. وآخر كُتبه الصادر في أوائل هذه السنة والذي يحمل عنوان: «دروس قرن من الحياة»(2021). وهو الكتاب الذي سبق له أن أثار الكثير من الدعوات، فَضَّل المُفكِّر وَصْلها بـ«احتفاليات» إتمامه سن المئة سنة، وهو الآن يتفادى كل طلب لإجراء حوار معه، لكنه وافق على استثناء دعوة مجلة «العلوم الإنسانية»؛ لأن الروابط بينه وبين هيئتها قوية جداً، إذْ كانت صورته على غلاف عددها الأول سنة 1990، ليصير فيما بعد «جون فرنسوا دورتييه»، مؤسِّسُ المجلة، صديقاً له، و قد رافقنا «إدغار موران» لأكثر من ثلاثين سنة.
«ليكن مفهوماً بأنني لا أعطي دروساً لأحد» بهذه العبارة يفتتح «موران» الدروس التي استفادها من حياة غطت مساحة قرن من الزمن.. وهي بدورها دروسٌ لا وجود لشيء قطعي فيها؛ فهو يعيد في هذا الكتاب رسم الملامح الكبرى لمغامرته الفكرية، مقدِّماً لنا ما استخلصه من وجودٍ بلغ قرناً من الزمان في هذه الدنيا موجزاً آفاق مستقبلية لأجل الإنسانية.
الربط بين المعارف من أجل التفكير في التعقيد الإنساني، ذاك هو البرنامج الذي وضع «إدغار موران» تَحقِيقَهُ نُصب عينيه، وها هو الآن بعد أن بلغ عمرُهُ قرناً من الزمن يحكي لمجلة «علوم إنسانية» مساره ومعاركه وانشغالاته وما يعقده من آمال على المُستقبل.
ما يميِّز الفكر المُركَّب أيضاً هو خاصية الَّلايقين التي تطبع المعرفة العلمية، وقد وضع وباء (كوفيد) هذا الَّلايقين في قلب المُجتمع، فما هي نظرتكم إلى هذه الأزمة؟
– لقد أدى وباء (كوفيد) إلى أزمة عالمية متعدّدة الأبعاد؛ إذ شكّل عاملاً جديداً للهشاشة والَّلايقين والقلق، بحيث كنا نحصي موتانا كل يوم، وما يسود اليوم من أفكار يحاول وضع مستقبل الإنسانية داخل حدود واضحة، مع إزاحته في نفس الوقت للايقينيات، غير أن أزمة (كوفيد) عملت على كشف تموجات الحياة بصور أكثر وضوحاً، ما جعل استقرارنا يختل ويرتج، فكيف يمكننا العيش مع تنبؤات لا يتعدَّى مداها أسبوعان أو ثلاثة أسابيع؟ كيف نعيش فزعين خائفين من حَجْرٍ صحيّ مفاجئ؟ هل يلزمنا التفكير في حدوث تحسُّن أم على العكس من ذلك في وقوع تراجع وارتكاس في الأمد المنظور؟.
لقد كرَّستُ خمسين سنة من عمري لبلورة سبيلٍ في الأجزاء السّتة المُكوِّنة لكتاب المنهج، غير أن ضرورة إحداث التغيير لم تفهمها الغالبية العظمى من السياسيين والاقتصاديين والتقنوقراطيين والمقاولين، فما الذي نجده في مواجهة رأسمالية نَزَّاعة إلى الهيمنة ازدادت قوّتُها حدّةً خلال الوباء؟ إن ما نجده هو أشْكالُ وعي مشتَّتة وصورُ تمرُّدٍ يتمُّ قمعها وجمعيات تضامنية، والقليل من الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لكننا لا نعثر على أي ثورةٍ سياسية متماسكةٍ ممتلكة لفكر مُوجِّه.
إن الفكر المُركَّب يواجه الَّلايَقِين باستمرار، فلمَّا تمَّ سؤالي عن موضوع الوباء، حاولت أن أجيب عن أشكال القلق وصوره، معيداً التأكيد بأن المُغامرة الإنسانية، فردية كانت أو جماعية، هي دائماً مغامرةُ يشوبُها الَّلايقين وتحفُّها المخاطر، وفضلاً عن ذلك نجدُ أن الخاصية العالمية لهذه الأزمة قد قوَّت من فكرة وحدة المصير، التي لا نكون على وعي بها دائماً، لكنها حقيقية بكل تأكيد، كما أن لنا حاجةً هائلةً للأمل، لأنها تشكِّل ثابتاً إنسانياً، لا سيما في تلك الفترات التي يعصف بها عدم الاستقرار؛ فعندما كنت في صفوف المُقاومة، كنا نعتقد بأنّ عالماً جديداً سيُولد لا محالة من جوف كل تلك الأهوال المُخيفة، قد تكون تلك الآمال مجرَّد أوهام، لكنها لا تنفكّ تولد من جديد وتنْبعثُ لدى الكائنات الإنسانية، ومعها يولد أملُنا في مستقبل أفضل.
مقاوم وشيوعي ومعارض للستالينية ومدافع عن القضية الفلسطينية ومن أنصار البيئة.
لقد اقترنت تباعاً بالعديد من القضايا السياسية، فأي نظرة تلقيها استرجاعياً على مسارك السياسي؟
– لقد انبثقت السياسة في فكري وأنا لا زالت في الثالثة عشرة من عمري، عقب المظاهرة المناهضة للبرلمان بتاريخ 6 فبراير/شباط 1934، حيث رأيت زملائي في الصف الدراسي يعارض بعضهم بعضاً بعنف، ولأنني لم أكن أمتلك أي قناعة مسبقة بخصوص هذا الموضوع، فقد تبنَّيْت موقفاً شكّياً وأنا أعايِنُ الانقسامات التي أحدثها الحدث، ثم كوَّنْتُ بعد ذلك ثقافتي الخاصة التي تدمج من جهة الثقافة الفرنسية التقليدية ذات النزعة الإنسانية، «مونتاني» و«رومان رولان Romain Rolland»، ومن جهةٍ أخرى النزعة الإنسانية الروسية لـ«ليون تولستوي»، وعلى الخصوص لـ«فيودور دوستويفسكي»، كما أن حياتي تبقى موسومة بنوعٍ من الاستمرارية، فمرحلتي الشيوعية هي فترة بين قوسين مكوَّنة من سنوات تلت مراهقة منفتحة إلى أقصى حدّ ومأساوية، فقد انخرطت في أيديولوجيا الكفاح وفي ضرب من الإيمان والدين المُتمحور حول الخلاص الأرضي.. وعلى إثر غزو الاتحاد السوفياتي من قِبل «فيرماخت Wehrmacht» (القوات المسلحة المُوحَّدَة لألمانيا)، انتقلت من كوني معارضاً لستالين إلى كوني شيوعياً.. وبعدما كنت داعية سِلم صرتُ مقاوماً، وقد كان ذلك بمدينة «تولوز». يمكنني القول بأن المُقاومة قد تخطّت الإيمان الشيوعي والحركية الديجولية لتشكِّل فرصة أمامنا كي نعيش بصورة مكثَّفة.. ولئن كنتُ قد ندمت تماماً عن ما كان بي من عَمَى بخصوص طبيعة الشيوعية السوفياتية، فلا يمكنني القول بأن المرحلة الشيوعية من تطوُّري قد مثّلت حظاً سيئاً لأنها أتاحت لي فيما بعد فَهم التوتاليتارية، ثمَّ مع صديقين فيلسوفين، هما «كلود لوفور» و«كورنيليوس كاستور ياديس»، اجترحنا مسارنا الخاص فيما وراء الماركسية، وما تعلّمته من ذلك هو أننا عبثاً نؤمن بأننا مسلَّحُون باليقينيات والبرامج، وأنه من الواجب علينا، في المُقابل، أن نتعلَّم بأن كل حياة هي إبحار وسط محيط من الَّلايقينيات، تتخلّلُهُ بعض الجزر والأرخبيلات التي تمثلها اليقينيات، حيث نَتزَود بما يقوِّينا على المزيد من المسير.. وأريد في هذا المقام الإشارةَ إلى أن أحد الدروس الكبرى التي استفدْتُها من حياتي هو توقُّفي عن الاعتقاد في ديمومة الحاضر واتصالية الصيرورة وقابلية المُستقبل لأن يكون موضوع تنبؤ.
منذ أن غادرت الحزب الشيوعي صِرتُ مستقلاً عن كلّ منطق حزبي في السياسة؛ فأنا دائم التّلْمذة، أستدمجُ معارف جديدة داخل فكر يزداد تعقيداً وتركيباً، دون أن يفقد تماسكه. إن الفكر المُركَّب فكر تكاملي يضيف الأفكار وفي نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، عندما كنت أغوص بصورة مثمرة في عالم الهيبيز بكاليفورنيا، اكتشفت المُشكلة الإيكولوجية، ولم أجد أدنى مشكل في أن أدمجها داخل تصوُّري للكائن الإنساني، فمنذئذ كنت أفكر في نوعنا بوصفه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ببيئته، وهي الموضوعة التي صارت تحتل اليوم مركز الانشغالات، بحيث صار مستقبل النوع الإنساني يمثل رهاناً سياسياً أساسياً لحقبتنا، أعتقد أن سبيلاً آخر ممكن فيما وراء الليبرالية الجديدة لكي يتمَّ إدماج البيئة بصورة أفضل.. وما يوجد من منظورات، كما هو الحال بالنسبة للنزعة التقنية العلمية والنزعة المابعد إنسانية، ليس كافياً بحدِّ ذاته كي يجيب عن التساؤلات المطروحة، لأن الكائن الإنساني المُزيَّد سيكون دائماً في حاجة إلى ربط علاقات، وإلى المُشاركة الاجتماعية والأخوة.
هل أنت متشائم بخصوص مستقبل الإنسانية؟
– الأحرى أن أصف نفسي باليقظ وحتى بالحذر وليس بالمُتشائم؛ ذلك أن الفكر يذهب إلى ماوراء التعارض بين متشائم ومتفائل، أعتقد أن التيارات السائدة، تلك التي نسمعها في وسائل الإعلام أو نقرأها في آخر ما نُشر من كتب، تجنح نحو النزعة التشاؤمية. فما عاينته هو تلاشي الوُد الذي كان سائداً إبان فترة مراهقتي في السنوات التي سبقت الحرب؛ أقصدُ علاقات الود الحارة بين الجيران، والمحادثات في المقاهي الصغيرة وعلى مَتن الميترو كما أن حشود المُتفرّجين قد تقلّصت إلى أقصى الحدود، إن تدهور جودة العيش يعود إلى أولوية الكمي في تنظيم مجتمعنا وقيادته، حيث صرْنَا نحسب ونقيس كل ما هو إنساني؛ فلكي نَحكُم صرنا نثمِّنُ ونعطي قيمة أكبر للناتج الداخلي الخام (PIB) وللإحصائيات ولاستطلاعات الرأي، مما جَعل بَصرنا ينقلب إلينا خاسئاً وهو حسير حين يرتبط الأمر بكل ما هو فردي، ذاتي وشخصي.. إن عقلاً محضاً وبارداً هو في ذات الوقت عقل لا إنساني ولا عقلاني؛ لأن العيش فنٌّ صعب وعسير يجب أن يراقب فيه العقل كل انفعال حتى لا نستسلم للحيرة والضلال ولكن فيه كل عقل تحرِّكُهُ وتُنَشِّطُه العاطفة والشغف، وهو ما يميل عالمنا التقنوقراطي إلى نسيانه، لكن بالرغم من كل شيء تبقى هناك إمكانية لتغيير السبيل.. إن الكثير من الاحتجاجات الراهنة كما هو الشأن بالنسبة لحركة السترات الصفراء ينطوي على حاجة ماسة لمَنْ يشاركون فيها إلى أن يتمَّ الاعتراف بهم بكل ما تَسَعُه خاصيَّتهم بوصفهم كائنات إنسانية من معنى.. أعتقد في أثر «إيفان إيلتش»، أن الودَّ وحُسن المُعاملة عنصرٌ أساسي في جودة الحياة، وسبيل خصب للإنسانية، لأنه يسمح بالاستجابة يومياً لحاجتنا إلى الاعتراف.
كيف ترى مستقبلك الخاص؟
– لقد عثرت على سبيلي منذ سن الثامنة عشرة، بألّا أنقطع عن البحث في الأسئلة الكبرى التي طرحها «كانط»: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب عليّ فعله؟ ما المتاح لي أن آمله؟ وحتّى الآن سرت في هذه الوجهة، وأنا في عمر المئة عام، مستقبلي هو أن أعيش لأسبوع! حينما يُطلب إليّ إلقاء محاضرة أو إجراء مقابلة، أرفض أن ألتزم مسبقاً لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع؛ ففي هذه السن لم تعد لي مشاريع كبيرة..اعتباراً لذلك أواصل التفكير والتأمل ومحاولة الإجابة عن أسئلتي الكبرى، آخذاً نقطاً ورؤوس أقلام، كما أكتب شذرات أنشرها أحياناً على حسابي على موقع تويتر، وأنا لا زلت أظن بأنني سأكتب على الورق تأملات قصيرة ففي هذه اللحظة مثلاً، ألهمتني موضوعة الأمة.. إن أنشطتي الفكرية تتواصل بصورة طبيعية، غير أنني ما عدت أخطّط بتاتاً لكتابة كتاب؛ فكتاب «دروس قرن من الحياة» هو آخر كتاب من كتبي الكبيرة الحجم.
– ما زلت أغذِّي فكري من مجلة العلوم الإنسانية، التي أجدها مجلة غنية جداً، فأنا أستدمج الكثير مما أقرأه على صفحاتها، فضلاً عن أنني أجد نفسي في مفهوم «علم الإنسانية humanologie» الذي تمَّ تطويره مؤخراً من طرف «جون فرنسوا دورتييه» (مؤسس المجلة)؛ لأنني أقوم بالربط بين المعارف الإنسانية بحثاً عن فهم تعقيد الكائنات الإنسانية.

التاريخ: الثلاثاء12-4-2022

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق