هناك حالة من عبثية المشهد في الشمال السوري، تمارسها أطراف العدوان على سورية، وهي في ظاهرها تبدو عصية على التحليل أو حتى الفهم، وكأنّها أزمة استراتيجيات تعاني منها الولايات المتحدة ابتداءً، تنعكس على قرارات تركيا كعضو ناتو، مضافاً إليها أزمات تركية بحتة، وهذا بدوره ينعكس على كل الأتباع في الفصائل الإرهابية على الأرض السورية.
فقبل عدة أيام خرج ما يُعرف بـ”أمير داعش الجديد”، معلناً عمّا سمّاه “غزوة الثأر للشيخين”، ومن الواضح أنّه سيعيد الإلزام بمركزية القرار التنظيمي، حيث أنّ القرار بعد هزيمة داعش عام 2019 على يدّ الجيش العربي السوري ومحور المقاومة، أصبح لا مركزياً، وبات كل مسؤول في منطقةٍ يتخذ القرار الأمني والعسكري، دون الحاجة لقرار متزعم التنظيم، وهي الفترة التي عُرفت بعمليات الذئاب المنفردة.
والمثير في الأمر، أنّه وحسب المعلومات الأمنية، فإنّ متزعمي التنظيم هؤلاء استقروا في إدلب، وذلك بقرارٍ تركي، وإدلب يحتلها الجولاني بغطاءٍ تركيٍ كذلك،
النصرة وداعش عدوان متباعدان سياسياً، وأخوان لدودان دينياً كما يروجان، ولكن تشاء المصالح الأمريكية والرغبات التركية وضعهما في قفصٍ واحد، على بُعد فرسخين من عدوٍ ثالث وهو المجموعات التي تُعرف بـ”قسد”، ولكن المشيئة الأمريكية فوق كل اعتبار.
كما تشنّ النصرة حملة اعتقالات في صفوف فصائل إرهابية أخرى، وتقوم بتسليمهم لتركيا، وأغلبهم من جنسياتٍ غير سورية، وتعاملهم تركيا باعتبارهم كنزاً قابلاً للاستثمار لدى دولهم الأصلية، أو تقوم بإرسالهم لساحات حربٍ أخرى مثل أوكرانيا.
يتزامن هذا الاحتضان التركي لأبشع وجوه الإرهاب، مع استهداف إرهابٍ من نوعٍ آخر، وهو استهداف تركي لجماعة الإخوان المسلمين في سورية خصوصاً، والمنطقة العربية عموماً، حيث تتطلب إعادة فتح العلاقات مع دولٍ عربية، محاربة التواجد الإخواني على الأراضي التركية، كذلك استبعادهم مما تسمى”المعارضة السورية” التابعة للأتراك.
وهناك متناقضٌ ثالث أو رابع، وهو استهداف التركي الرسمي والشعبي للاجئين السوريين، حيث يخضعون للتجاذبات الانتخابية بين أردوغان ومعارضيه، ويتم ترحيلهم أو توطينهم على الحدود أو منعهم من العودة الطوعية لسورية.
ويحيط بكل تلك المشهدية العبثية، لتزيدها سريالية، القواعد الأمريكية، التي تصرّ الولايات المتحدة على إبقائها هناك، رغم ضبابية المصير لتلك القواعد أولاً، وعدم وجود استراتيجية واضحة لمستقبلها ثانياً، ولكن بالعودة لتصريحات دونالد ترامب إبّان رئاسته للولايات المتحدة عن النفط السوري، نلحظ أنّها أضحت عصابات لصوصية لسرقة النفط والقمح السوري، لا قواعد عسكرية لدولةٍ عظمى.
ولكن في محاولةٍ لتفكيك هذا المشهد، نجد أنّه مجرد رهان على نتائج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تنتظر كل الأطراف هذه النتائج باعتبارها جزءٌ لا يتجزأ من الحرب على سورية، وتتوق أطراف العداء لسورية على هزيمة روسيا، ويراهنون على استمرار الحرب بالدفع بكل ما يزيد أوارها، حتى يحاولون إغواء بوتين بحلولٍ تضمن له ماء الوجه، إذا ما شعر بالهزيمة، وقرر النزول عن الشجرة التي صعد إليها.
وفي حال الوصول إلى هذه المرحلة، يعتقدون أنّ الأهداف العدوانية في سورية، ستصبح قاب قوسين من البنان التركي والكف الأمريكي، حيث ستغامر روسيا بكل مكتسباتها كدولةٍ عظمى جراء تدخلها في سورية.
والحقيقة أنّ روسيا لن تنهزم في أوكرانيا، وهذه شبه بديهيات، وطول أمدّ المعركة ما هو إلّا محض تصوّر عن آماد الحروب، والحروب بأهدافها لا بآجالها، لذلك فإنّ ذلك المشهد العبثي في الشمال السوري، ما هو إلّا قنبلة موقوتة ستنفجر لا محالة فيمن ظنّ أنّه ورقة لمساومة روسيا، أو للضغط على سورية، وهذه المراوحة على مدار أعوامٍ ثلاثة، ستنتهي قطعاً، ولن تنتهي إلّا باستعادة الدولة السورية لكل أراضيها، واستخلاصها من يدّ الإرهاب والترك وأمريكا.