حين غادرتُ مكتب الغالية غصون سليمان أمس، تعمّدتُ ألا ألتفت خلفي، مردّدةً قول ماركوس أوريليوس “كل بداية تنتهي، وكل نهاية بداية أخرى”، قبل أكثر من ثلاثة عقود، دخلت غصون مبنى صحيفة الثورة، ومنذ ذلك اليوم علقت بمهنة الإعلام، تلك المهنة التي تلتهمك حدّ الثمالة، ولا تمنحك فرصة الانعتاق، أفهم جيداً مشاعرها، وأدرك أن نهاية الخدمة ليست إلا بداية أخرى.
كانت غصون دائماً غصناً رفيعاً يعرف كيف يميل دون أن ينكسر، يظلل علينا برقةٍ وبأخلاق لا تُضاهى، سيعتصر قلبي حزناً وأنا أمرّ من مكتبها في الطابق السادس، حيث غرفة المجتمع في أقصى اليسار.. تلك الغرفة الصغيرة التي ضمّتنا طويلاً، حتى وهي غارقةٌ في عملها خلف الكمبيوتر الصغير، تتحايل على المواد لتصل بأمان إلى النشر، كنا نشعر أن أي مادة تصل إلى غصون تصبح في أيدٍ أمينة. وحين سافرنا معاً إلى تركيا، كان الطريق سهلاً والرفقة ممتعة، وحضورها يعيد للروح توازنها.. وعندما عملنا في فريق الاستبيانات، أدركتُ أن العمل معها يشبه قول تولستوي، “العمل يعطي الحياة معنى.. والنية الطيبة تعطي العمل قلباً” كانت تعمل بقلبها، لذلك كان حضورها قيمة مضافة، لا رقماً في سجلات الإدارة.
وحين غادرت غصون مكتبها، أدركت أن أعمارنا المهنية ليست سوى مراحل قصيرة، لكن أثر الإنسان أطول من كل الوظائف. ونحن نترقب لحظة الوداع، لم أستطع الالتفات، فدمعتها أغلى من أن تواجهها العين، تركت وراءها ظلاً طيباً، وذكرياتٍ تشبه النسمة، وإرثاً من اللطف لا يتقاعد.
ستظلّ من تلك الأرواح التي تغيب.. لكن ظلالها تبقى طويلاً بعد رحيلها، وسيظل مكتبها محفوراً لا بانشغالها الصحفي فقط، بل بحسن معاشرتها، متذكرين قول إمرسون.. “الصديق هو من يجعل طريقك أسهل، حتى لو لم يغيّر من اتجاهك”.