الاستثمار في العقول

الملحق الثقافي: نبيل فوزات نوفل:

نعيش عصراً تتفجر فيه المعرفة وتتدفق دون انقطاع، ويشهد العالم تغيرات تكنولوجية متسارعة في مختلف جوانب الحياة، تستدعي ضرورة الاستثمار الأمثل لقدرات الإنسان وإمكانياته ، وقد أصبح العقل البشري هو الاستثمار الأول ، فأكبر الدول تطوراً هي التي تحسن عملية استثمار عقول أبنائها ، فالحاجة تزداد إلى من يستطيع أن يقدّم حلولاً جديدة لما نعانيه من مشكلات، وفكراً جديداً يساعد على تطوير الحياة ، ويبدو أن عصر التغيرات المتسارعة يفرض على المربين التعامل مع التربية والتعليم بوصفه عملية لا يحدها زمان أو مكان ، وتستمر مع الإنسان بوصفها حاجة وضرورة لتسهيل تكيفه مع المستجدات في بيئته ، ومن هنا تكتسب شعارات ( تعليم الطالب كيف يفكر ) و( كيف يتعلم ) أهمية خاصة.
ويدل تاريخ المجتمعات البشرية وواقع الدول المتقدمة إن استثمار العقول من أعظم الاستثمارات على مستوى العالم،فقد انتبه الغرب والشرق لهذا الموضوع ،وأولوا جل اهتمامهم،وبذلوا الغالي والنفيس من الأموال والدراسات واستغلال المواهب.
إن معظم الجامعات العربية التي جاء تكوينها على صور هجينة لبعض جامعات العالم المتقدم، باتت اليوم رهينة انحسار واضح في سموها العلمي، ما أوصلها إلى مقام سبات يكاد يقارب صمت القبور ، بالإضافة إلى تدني الإنفاق على التعليم والبحث العلمي،كما أن مخرجات التعليم هي أبعد ما تكون عن احتياجات سوق العمل،وتتسم هذه المخرجات بالعشوائية،وغياب الكفاءة المهنية، كونها قائمة على التلقين الذي لا ينتج فرصاً في سوق لعمل ، هذا الواقع أدى إلى حدوث شرخ في شخصية الشاب العربي أدت لاغترابه ومغادرته لوطنه، نتيجة الاختراقات التي حدثت في المؤسسات التعليمية العربية والتي بدأنا نلمح ملامحها من خلال:
-اختلال النسق القيمي للشباب العربي، والتخلي عن القيم الإنسانية الأخلاقية، واهتزاز ولاء الشباب للوطن والأمة، وعدم الاكتراث بهموم ومشكلات المجتمع.
-اختلال مفاهيم الشباب لمعاني العمل والعلم ، والانبهار بالتقدم التقني والعلمي، والثقافي الأجنبي، وتزايد الإحساس بالاعتماد على الأجنبي.
-الاتجاه للتركيز على أهداف الفترة القصيرة، ومحاولة النجاح السريع، وزيادة وتعميق الميل الاستهلاكي واكتساب أنماط استهلاكية غير رشيدة، والتمسك بكلّ ما يأتي من الخارج دون تمحيص، وهذا ما أدى بالشخصية الشبابية العربية إلى انعزالها عن الواقع، والانكماش في دائرة السلبية وافتقاد الهوية.
-إدراك معظم الشباب أن الشهادة العلمية لم تعد مفتاح الوصول إلى وظيفة تضمن الدخل المنظم والكافي لحياة ميسورة نوعاً ما. وإذا حللنا ودرسنا الأسباب التي أدّت لهجرة الكفاءات يمكن أن نوجزها بالآتي:
انخفاض مستويات الأجور للكفاءات العالية ، وإبعاد وتهميش الخبرات والكفاءات والاختصاصين، وذلك نتيجة للقمع الإداري الذي يمارسه بعض البيروقراطيين بسبب تخوفهم من الخبرة، وهدفهم تحقيق مصالحهم الشخصية قبل مصلحة الوطن، وعدم الاهتمام بالبحث والدراسات العلمية التي تعتبر غذاءً للاختصاصين يدعوهم للعمل والاستقرار، ويفيد الوطن بتحسن أساليب العمل والإنتاج وتطويره ، وعدم توفر التسهيلات العلمية للبحث وغيرها. ويمكننا القول: إن هجرة الأدمغة العربية واحدة من أخطر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الدول العربية، خاصة إذا علمنا أن تكلفة تكوين الدماغ كما يرى الأخصائيون اليابانيون هي بحدود عشرة كيلو غرامات من الذهب، نعرف كم تخسر الأمة العربية سنوياً من المليارات فضلاً عن ما يمكن أن يقوموا به من دور في التنمية وتطويرها وهذا من أهم الأسباب التي تؤدي للاغتراب السلبي عند الشباب العربي .

نحو استراتيجية جديدة لاستثمار العقول

أمام هذا الواقع فنحن بحاجة إلى الخلاص من حالة المراهقة الفكرية،لأنها تعطل النضال الوطني،وتجمد طاقاته ، وتشكّل بصورة سافرة قدرة معادية للشعب والوطن،فبالعلم والمعرفة نستكشف الأبعاد الحقيقية للقيم النضالية الحياتية كالوطنية والكرامة والغيرية والشهادة ونعرف كيف نجسدها ونضعها في مكانها الصحيح ،وعلينا التمسك بناصية البحث العلمي وسبر أغواره وهو ما يمكننا من التقدم الذي ننشده إلى جانب التركيز العميق على التنفيذ الحازم لخطة التعليم المهني والفني وإعطاء الأولوية للجامعات والبحث العلمي الحقيقي، ورصد الإمكانيات المادية للباحثين .
إننا بحاجة إلى تطوير المناهج التربوية والتعليمية والابتعاد عن أساليب التلقين التي تسببت بثغرات خطيرة لا يمكن تلافيها،فتطوير المناهج التربوية بما يحقق التواصل بين ماضي سورية وحاضرها ويرسخ أهميتها ومكانتها،وأن تركز المناهج التربوية الجديدة على تعزيز الشعور بالمواطنة وروح الحوار والقبول بالآخر، وتكريس المناهج الوطنية والإضاءة على التنوع الذي تتميز به سورية باعتبارها قيمة وسمة لمجتمعها ،وتضمين المناهج التربوية مفاهيم جديدة ظهرت خلال الأزمة وعلى رأسها ترسيخ معاني البطولة،ومن القضايا الهامة التي يجب ترسيخها في مناهجنا التربوية هي:
الإحساس بالزمن وتقديره باعتباره ثروة عظيمة وأداة ذلك الوعي،والإرادة ،فعندما نستطيع ان نملأ الوقت بالعمل فسنجد الحياة أكثر غنى وبهجة، وهذا لا يعني أن لا وقت للراحة،بل يجب أن يكون للراحة وقتها المحدد والمعروف الذي نملؤه وللعمل وقته المحدد المعروف الذي يملؤه وألا نشابك بينهما.
وهذا يتطلب اتباع أسس جديدة في مجال التعليم العالي ،يأتي في مقدمتها:
-تعزيز مكارم الأخلاق من خلال وضع معايير قياس لمنهجية نشر ثقافة أخلاقية بين أفراد المجتمع.
-تنمية القدرات الطلابية وتوجيهها جهة الانتماء وخدمة المجتمع من النواحي الأخلاقية والتنموية .
-توحيد القيادة العامة للتعليم العالي وإعادة الهيكلة الإدارية والتقنية والفنية لتيسر تطبيق وسائل تطوير الجهاز الإداري والتعليمي عن طريق التحسين المستمر للوائح وأنظمة التعليم لتصل لمعايير دولية .
-تثقيف أعضاء الهيئة التدريسية وتدريبهم على استعمال الأساليب الفكرية في وضع المناهج الحديثة .
-استقطاب الخبراء للتدريب للطلاب والتدريب الأكاديمي على تصميم المناهج المبنية على الفكر الثقافي وتدريبهم على كيفية استخدام النواحي التقنية في التعليم.
– بناء قاعدة بيانات لخارطة انتشار هذه الكفاءات في العالم وتصنيفها والتواصل معها والاستفادة من خبراتها والعمل على عودتها للوطن أو الاستفادة من خبراتها ، وهي في بلد المهجر، وإشراكها في وضع تصورات وخطط ومناهج التطور والبحث العلمي والتكنولوجي المتقدم ،واجباً وطنياً وضرورة لتقدم عملية التنمية
-تدريب الأكاديميين على أحداث تقنيات التعليم ،وعلى كيفية استخدامها في طرق التدريس النظرية والعملية والبحث العلمي على السواء.
-إنشاء وحدات مراكز تقنية وفنية لمساعدة تطوير البحث العلمي .
-تدريب الجهاز الإداري على وسائل التقنيات الحديثة في المعاملات الإدارية.
-تدريب الأكاديميين وحثهم وتوجيههم لتنفيذ مشاريع بشرية تستغل الموارد الطبيعية للوصول للمعايير الدولية التي تعيش تميز البحث العلمي .
-تذويب الفجوة بين المؤسسات التعليمية والقطاع الاستثماري بالتمييز البحثي وتوفر الكوادر الفنية.
-إنشاء وحدات فكرية تربط رجال الأعمال والعلماء بهدف وضع آليات لاستغلال الموارد الطبيعية للاستثمار المستديم.
-وجود آلية لتشجيع الملكية الفكرية وضمان حمايتها ضد الانتهاكات ودعم الاستثمار الفكري من قبل الحكومة عن طريق التوعية البناءة وتعاون كل الجهات المعنية المتمثلة بالحكومة وأصحاب الصناعات والمجتمع نفسه،
وأولى المهام الملقاة على الحكومات والمفكرين ورجال العلم وصناع القرار أن يعطوا العقل والتفكير جلّ الاهتمام ويهتموا بالفكر والتفكير العقلاني والنقد الإبداعي،والتفكير الخلاق،واعتبارالاستثمار الفكري رأس مال الحاضر والمستقبل،أخذين بعين الاعتبار أن الاستثمار في التعليم يختلف عن الاستثمار في رأس المال المادي ،حيث لا تتحقق عوائده إلا على المدى البعيد،ولا يمكن قياس عائده بالمقياس ذاته لرأس المال المادي،ولا يمكن التحكم فيه بعامل الزمن ،كما لا يمكن التنبؤ بعوائده بدقة.والرؤيا المتقدمة للتعليم العالي هي التي تؤكد على التعليم المستدام،حيث هناك من طرح مفهوم الشجرة التعليمية الذي له بداية فقط،كما أنه مرن ومتنوع في تسلسله وليس له سقف محدد،فنهايته مفتوحة،تسمح بالامتداد والنمو مع تشعب ونمو المعارف والعلوم والفنون لذلك تعد مؤسسات التعليم العالي تعتبر قيمة حضارية فهي الأداة والقوة التي تحرك الأحداث وهي عنوان الشعوب و المصنع الذي يمد المجتمع بالقوى البشرية المحركة لكلّ مقدراته.

التاريخ:الثلاثاء10-5-2022
رقم العدد :1094

آخر الأخبار
توزيع سلل صحية في ريف جبلة مرسوم بمنح الموفد سنة من أجل استكمال إجراءات تعيينه إذا حصل على المؤهل العلمي مرسوم يقضي بالسماح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى والدراسات العليا المنقطعين بسبب الثورة بالتقدم بطلب... مرسوم بمنح الطالب المستنفد فرص الرسوب في الجامعات والمعاهد عاماً دراسياً استثنائياً مرسومان بتعيين السيدين.. عبود رئيساً لجامعة إدلب وقلب اللوز رئيساً لجامعة حماة   انفجارات في سماء الجنوب السوري منذ قليل إثر اعتراض صواريخ إيرانية أوقاف حلب.. حملة لتوثيق العقارات الوقفية وحمايتها من المخالفات والتعديات تفعيل النشاط المصرفي في حسياء الصناعية تحديد مسارات تطوير التعليم في سوريا تعاون  بين التربية و الخارجية لدعم التعليم خطط لتطوير التعليم الخاص ضمن استراتيجية "التربية"   تجارة درعا.. تعاون إنساني وصحي وتنموي مع "اينيرسيز" و"أوسم" الخيرية بدء توثيق بيانات المركبات بطرطوس الهجمات تتصاعد لليوم الرابع.. والخسائر تتزايد في إيران وإسرائيل صالح لـ (الثورة): أولى تحدّيات المرحلة الانتقالية تحقيق الاستقرار والسلم الأهل مشاركون في مؤتمر "الطاقات المتجددة" لـ"الثورة ": استخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة ودعم البحث العلمي قتلَ وعذبَ معتقلين في مشفى المزة العسكري.. ألمانيا تحكم بالمؤبد على أحد مجرمي النظام المخلوع  "تجارة إسطنبول": نجري في سوريا دراسة ميدانية لفرص الاستثمار "الفيتو الأميركي".. هل حال دون اغتيال خامنئي؟.. نتنياهو يعلّق الفساد المدمِّر.. سرقة الكهرباء نموذجاً عطري: العدادات الذكية ليست حلماً بعيداً بل هي حل واقعي