وداعاً لأدب الرسائل…..

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:

لا يختلف اثنان أن أدب الرسائل أو كما يسمونه في الغرب الأدب الشخصي قد تراجع، حاله كحال أدب المقامات من قبله أمام طوفان ثقافة الصورة والانترنيت وما اشتق منهما، بعدما أثرى المكتبات بأمهات كتب لاقت لها رواجاً وشكلت رافداً مهماً في تراثنا الأدبي، ولعب هذا النوع الأدبي بما احتوى من أفكار ورؤى ومشاعر وجدانية خاصة دوراً مؤثراً في الكشف عن جوانب ومناطق مهمشة في التراث.. بحيث بات مجرد الانحناء على ورقةٍ بيضاء لكتابة «رسالة» إلى أحدهم، مشهدًا محذوفًا من مسرحِ حيواتنا المتسارعة.. لم تعد تلكَ الصورة قائمة، مَن يحمل القلم ويكتب على الورقِ في دجى الليل، ثم يجيل فيها النَظر مرارًا، قبل الختم باسمه، لتصل زاهية إلى القلب المنتظِر! وحتى يمكننا القول أننا أصبحنا الآن نعيش في فترة قولبة المشاعر وتنميطها، بعد أن أصبحنا نتبادل الرسائل بيننا على السوشل ميديا وفق ملصقات جاهزة غب الطلب.. فأضحى وخلال فترة قصيرة، للجوال شعراؤه وكُتّابه المجهولون الذين يبدعون على مدار الساعة في كتابة رسائل ساخنة وباردة، وقصائد فيها من اللوعة بقدر ما فيها من الطرافة، وأحياناً السماجة إلى حد الغلاظة، وإطلاق فكاهات تواكب ما يجري في المجتمع من أحداث كبرى وصغرى، وكأننا أمام ديوان معاصر سريع خارج إطار الثقافة المتعارف عليها.
ما أريد تناوله هنا ليست الرسائل المتصلة بقضايا اللغات والآداب والعلوم والسياسة والاجتماع، كما هو الحال في رسائل الجاحظ وابن المقفع وأبي العلاء المعري وغيرهم، بل تلك الرسائل الخاصة التي يتبادلها أصدقاء حميمون باعدت بينهم الظروف والأماكن، أو يعمل كتّاب وشعراء ومبدعون على تحويلها إلى مكاشفات قلبية ومعرفية عميقة، أو يلجأ إليها العشاق المتيمون ليعبّروا بواسطتها عن شغف أحدهم بالآخر.. وإذا كان كل هؤلاء الذين ذكرت، كما سواهم من البشر، قد دأبوا منذ قرون طويلة على تبادل الرسائل عبر وسائل متفاوتة التطور تتراوح بين الحمام الزاجل وشبكة الإنترنت، فإن اللافت في هذه الآونة هو حرص دور النشر العالمية على الاهتمام برسائل المفكرين والشعراء والمبدعين، وترجمتها إلى غير لغة من لغات العالم.. وما يعطي لهذا النوع من الأدب الذي اضمحل وافتقدناه أمام الغزو السيبراني أهميته هو أنه يمنحنا متعة الفضول والتسلل إلى اللحظات السرية والحميمية في حيوات الآخرين، خصوصاً أولئك المتوارين خلف أسمائهم اللامعة وإنجازاتهم العلمية والأدبية الكبرى.. كما أن الطبيعة الشخصية للرسائل، وما تتميز به من تلقائية وبساطة وبوح صادق، تساعد القارئ على إنزال كاتبها من خانة الغموض والاستبعاد المتأتيين عن الشهرة، إلى خانة أخرى أكثر التصاقاً بحياة البشر العاديين ومكابداتهم وهواجسهم اليومية.. ولعل المتعة الاستثنائية التي يوفرها ذلك النوع الأدبي تتمثل في قدرته على الجمع بين فنون السرد والاعتراف والسيرة والمذكرات، وما يتخلل كل ذلك من بوح عفوي وتتبع لتفاصيل العيش ودقائقه وجزئياته.. فكم امتعنا الشاعر التركي ناظم حكمت في رسائله التي كان يبعث بها من سجنه ويضع فيها عصارة أفكاره ومعاناته وتجربته خلف القضبان والتوق إلى الحرية، في كتاب جمعها فيه بعنوان ( رسالة إلى ناظم حكمت ) ! أو ممن ارتبطا بصداقة «متوترة» تولت الرسائل إصلاحها وإعادتها إلى سيرتها الأولى، كتلك التي تبادلها محمود درويش وسميح القاسم في نهاية ثمانينات القرن الفائت.
فيما بقيت مي زيادة وجبران خليل جبران يتبادلان مشاعر الحب والعواطف المتأججة على الورق لمدة عشرين عاماً ولم تره أو يراها مطلقاً وليضعوا بين أيدينا أجمل كتاب رسائل.. بينما الآن استطاعت السوشل ميديا أن تجعلَ البعيد بينَ يديك، لم تعد بحاجةٍ إلى النَظر في النجوم تسترق منظرًا يعيد لك شيئًا من الذِّكرى، ولن تسعى في تذكر ملامحِ وجه من تحب، ونبش الذَّاكرة عن تفاصيل دقيقة لا يعرفها سواك، أو عن لحظات الحنين التي كانت في لحظةٍ غابرة، كل ذلك بات مشاهدًا؛ فلم تعد الحاجة ملحة لأن يفترَّ الكاتب ورقة يسكب فيها متاهات السنين والأيام، وآلام الغربة، وأوجاع الرحيل! ومن هنا بدأت الكلمة المكتوبة تفقد الكثير من بريقها ومعناها وحرارتها وصدقها الفني، خاصة بعدما بات رسول المتراسلين هو الهاتف الجوال، وشتان ما بين هذا وشروط سفير العاشقين الواردة في كتاب ( طوق الحمامة ) لابن حزم.
وبالتالي يمكننا القول وللأسف، إن التقنيات الحديثة التي سهّلت على البشر سبل التواصل والمراسلة السريعة، حرمتهم بالمقابل من المتع الحسية والروحية التي وفرها لهم صرير الأوراق ورائحة الحبر وحدب الأصابع على القلم.. وحرمتهم أيضاً من طقوس إيداع الرسائل في صناديقها المعتمة مصحوبة بمشاعر الرجاء أو الخوف.. وحرمتهم من تلك اللهفة العارمة التي يفتحون بها صناديق بريدهم، التي لم تعد تضم بين جنباتها كنوز الحياة الأغلى وذهب القلوب المدوّن على الورق.
هذا من جانب، ومن جانب آخر نستعير هنا قول الكاتب أنيس منصور فيما يتعلق بتراجع هذا النوع الأدبي ولا سيما في عالمنا العربي « ليس مألوفاً عندنا أن تتحدث أي شخصية عن غرامياتها أو عن صداقاتها العميقة، كما وليس من المألوف أيضاً أن يتكلم الأديب عن ملهمته لا بالاسم ولا بالجسم.. أما في الغرب فممكن، وقد قرأنا العذاب والهوان والفن الجميل لهؤلاء الذين أبدعوا وأسعدوا، وكانوا أشد الناس تعاسة.. ومثال ذلك في أدبنا العقاد فقد أحب عن بعد وأكمل الباقي في خياله وشعره البديع، وكذا توفيق الحكيم أحب وأشار من بعيد، وينطبق القول على طه حسين أيضاً أحب امرأة وكانا يلتقيان وكانا يطلبان من توفيق الحكيم أن يتركهما وحدهما .. أما فيما يتعلق بمراسلات مي زيادة وجبران خليل جبران، فقد ظهرت متقدمة عن عصرها وأوانها، كما والتف حولها أدباء عصرها وقالوا وقالت وكان كلامهم في غاية الأدب والحياء والخوف.. وكتب عنها مصطفى صادق الرافعي كلاماً جميلاً في ( رسائل الأحزان ) و ( السحاب الأحمر ) و ( أوراق الورد ) وكلها من خياله، ولم تكن مي مثل الأديبة جورج صاند التي أحبها شوبان ولا كانت مثل ( لو سالومي ) التي أحبها الشاعر ريلكا والفيلسوف نيتشة والعالم فرويد».
أما من جهته، يرى الشاعر عبد اللطيف عبد الحميد أن «هذا الفن يحتاج إلى قدر كبير من الحرية التي تتيح للكاتب أو الكاتبة ـ خاصة ـ أنه يعرض لأسرار حياته في شجاعة محمودة ومحسوبة، ولا داعي للتجاوز غير الأدبي لديهما لأنها أسرار يشترك فيها الناس جميعاً، ولا ميزة للأديب فيها، ونحتاج أيضاً إلى قدر من السماحة العقلية والوجدانية لقبول هذا الفن، إذا تحقق هذا، وارجو أن يتحقق.. وأعتقد أن هذا الفن سيولد من جديد في ثوب عصري، ويتخطى حدود الوسائل الحديثة العصرية، لأن الكتابة ستظل في رأيي سر مقدس رغم زحام الوسائل العصرية لها.»
وضمن هذا السياق، نشرت مؤخراً الكاتبة غادة السمان كتاب « رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان « بعد نشر رسائلها مع الكاتب غسان كنفاني.. والذي يتضمن رسائل عشق وهيام بها بثها الشاعر أنسي الحاج في الستينات من القرن الماضي.. وقد أثار كتابها موجة من الانتقادات لنشرها رسائل خاصة بعد مرور أكثر من خمسة عقود على إرسالها.. وقد ثار في الصحافة الثقافية جدلٌ عام حول أدب الرسائل وثقافة البوح في سيرورات المجتمعات العربية، أشير فيه من ضمن أمور كثيرة أخرى، إلى أن إحدى سمات تلك الرسائل تتمثل باختلاط العامّ بالخاص في نطاق كتابة متحرّرة تبدأ من الأمور الشخصية ولا تقفز عن الحديث حول الهم العام.. ولتعيد التساؤل مرة أخرى عن ذلك النوع الأدبي الذي بات شبه مندثر، بشكله القديم ، فضلاً عن التحفظ الذي لا يزال سمة لصيقة بالثقافة العربية، نظراً لأن كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمية، نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع.. وللأسف أن تقاليدنا في المراسلات بين الأصدقاء المبدعين قليلة إن لم تكن منعدمة والذي ربما قد يكون سبباً في عدم ذيوع هذا الجنس الأدبي بشكل كبير في العالم العربي.. على غرار النتاج الغربي في هذا المجال، والذي دخل إلى صميم العلاقات الغرامية.. ونذكر في هذا الصدد، على سبيل المثال لا الحصر رسائل البير كامو وعشيقته الممثلة ماريا كازاراس أو رسائل نابليون بونابرت وزوجته جوزفين.
وقد أدرك الكاتب إرنست هيمنغواي الفرق بين كتابة الأديب عن ذاته وتعريته لها في اليوميات والرسائل، فثمة فارق بين أن يكتب عن نفسه كما في «وليمة متنقلة»، أو أن يبوح بمكنون النفس في رسالة لصديق أو حبيبة، فكان حريصاً على أن تبقى خاصة بينه وبين المرسل إليه، لذا اعتاد أن ينهي رسائله لأمه بقوله «لا تقرأي هذا الكلام على أي شخص»، وفي رسالة أخرى كتب لها عن صحافية تعد مقالاً عن فترة شبابه، وهدد الأم إن تعاونت معها «أظن، سيكون موقفاً سيئاً جداً، أن أتوقف عن مواصلة المساهمة في تأمين حاجياتك في حالة نشرهم لمقالة من هذا النوع دون موافقتي». لكن من يقرأ رسائله قد يكتشف سبباً آخر، فالرسائل تكشف عن وجه آخر لهيمنغواي، أو ربما تسقط القناع عن وجهه الحقيقي، فيظهر المحارب القوي رقيقاً هشاً يبكي لموت قطته التي رافقته لأحد عشر عاماً، مع العلم أن رسائله التي صدرت عقب وفاته كانت مخالفة لوصيته في عدم نشرها.
قلنا في البداية أنَّ أدبَ الرسائل يتجه للحاق بفنّ المقامة في الأفول، ولكن يجدر بنا الإشارة هنا أن الأخير قد تخلى عن مكانه لصالح فنون إبداعية أخرى مثل المسرح والشعر، لكن تخلي أدب الرسائل، لن يكون لمصلحة فنٍّ إبداعيٍّ جديد، بقدر ما سيكون لأجهزة ذكية وشاشات مضيئة، تجمد الإحساس وتقتل الإبداع.

العدد 1102 – 5-7-2022

آخر الأخبار
مخبز بلدة السهوة.. أعطاله متكررة والخبز السياحي يرهق الأهالي عودة الحركة السياحية إلى بصرى الشام خبير اقتصادي لـ"الثورة": "الذهنية العائلية" و"عدم التكافؤ" تواجه الشركات المساهمة اشتباكات حدودية وتهديدات متبادلة بين الهند وباكستان الرئيس الشرع يلتقي وزير الزراعة الشيباني أمام مجلس الأمن: رفع العقوبات يسهم بتحويل سوريا إلى شريك قوي في السلام والازدهار والاقتصاد ... "الصحة العالمية" تدعم القطاع الصحي في طرطوس طرطوس.. نشاط فني توعوي لمركز الميناء الصحي  صناعتنا المهاجرة خسارة كبيرة.. هل تعود الأدمغة والخبرات؟ ترجيحات بزيادة الإمدادات.. وأسعار النفط العالمية تتجه لتسجيل خسارة تركيا: الاتفاق على إنشاء مركز عمليات مشترك مع سوريا "موزاييك الصحي المجتمعي" يقدم خدماته في جبلة تأهيل طريق جاسم - دير العدس "بسمة وطن" يدعم أطفال جلين المصابين بالسرطان اللاذقية: اجتماع لمواجهة قطع الأشجار الحراجية بجبل التركمان درعا.. ضبط 10 مخابز مخالفة تربية طرطوس تبحث التعليمات الخاصة بامتحانات دورة ٢٠٢٥ مُنتَج طبي اقتصادي يبحث عن اعتراف سوريا أمام استثمارات واعدة.. هل تتاح الفرص الحقيقية للمستثمرين؟ دعم أوروبي لخطة ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا