الثورة – عبد الحليم سعود:
بعد كفاح مرير وتضحيات عظيمة تجاوزت المليوني شهيد حصلت الجزائر الشقيقة على استقلالها وطردت الغزاة الفرنسيين شرّ طردة، حيث احتفل الشعب الجزائري يوم أمس بالذكرى الستين لانتصار ثورته المباركة التي تعتبر مضرباً للأمثال في جبروت الشعوب المناضلة من أجل نيل حريتها واستقلالها وحماية أوطانها.
لم تكن طريق الجزائريين لنيل استقلالهم مفروشة بالورود، بل يمكن القول بأن الجزائر شهدت أطول وأعتى وأقسى فترة من المواجهة مع المحتلين الفرنسيين تجاوزت المئة وثلاثين عاماً، حيث عرفت الجزائر المقاومة العسكرية طويلة الأمد منذ وطأ المستعمرون الفرنسيون أرضها في العام 1830، وكان في طليعة الثوار الأمير عبد القادر الجزائري في الغرب، والباي الحاج أحمد في الشرق، حيث قاد الأمير عبد القادر إلى جانب والده الشيخ محي الدين مقاومة شرسة ضد المحتلين استمرت من العام 1830 حتى العام 1847 انطلاقاً من مدينة وهران، حيث أظهر الأمير ورفاقه الثوار شجاعة وبطولات رائعة زلزلت الفرنسيين وألحقت بهم خسائر كبيرة وأجبروهم على الانسحاب والتقهقر، ومن المعارك التي خيضت في تلك المرحلة معركة خنق النطاح الأولى والثانية، حيث أسند الشيخ محي الدين الراية للأمير عبد القادر في المعركتين ليكون بطلهما دون منازع، حيث قسم جيشه إلى خمس فرق: فرقتان للقتال، وفرقتان للدفاع، وخامسة كمنت وراء العدو، وفاجأته عند تقهقره إلى الوراء وأبادته عن آخره واستولت على كل السلاح والذخيرة.
كما خاض الأمير عبد القادر بعد أن بايعه الجزائريون على الولاء والطاعة خلفاً لوالده معركة المقطع ومستغانم والتافنة والسكّاك، وفي كل معركة ذاق الفرنسيون مرارة الهزيمة وتكبدوا خسائر فادحة.
وفي مرحلة أخرى خاض الأمير عبد القادر والثوار حرب عصابات ضد الفرنسيين تخللها العديد من المعارك من أهمها: معركة الزمالة وجبل كركور ووادي مرسي، وقد لجأ الفرنسيون بعدها إلى الوحشية المفرطة في هجومهم على المدنيين العزل فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ، وحرقوا القرى والمدن التي تساند الأمير. لتبدأ الكفة بالرجحان لصالح العدو بعد استيلائه على عاصمة الأمير تاقدامت 1841، ثم سقوط الزمالة -عاصمة الأمير المتنقلة- سنة 1843 وعلى إثر ذلك اتجه الأمير إلى المغرب في تشرين أول عام 1843 الذي ناصره في أول الأمر ثم اضطر إلى التخلي عنه على إثر قصف الأسطول الفرنسي لمدينة (طنجة والصويرة)، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي اضطر السلطان المغربي إلى ترحيل الأمير عبد القادر، وتعهد للفرنسيين بالقبض عليه. الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى الجزائر في أيلول 1845 محاولاً تنظيم المقاومة من جديد، لكن فترة من الضعف حاقت بالثورة آنذاك فاضطر الأمير إلى مغادرة الجزائر منفياً فاختار مدينة دمشق ليقضي فيها بقية حياته.
لقد أدرك الجزائريون منذ تلك الفترة أن حربهم مع الفرنسيين ستكون طويلة بالنظر للوحشية الفرنسية في التعاطي مع نضال الجزائريين ومخططاتهم الساعية لإبقاء الجزائر مستعمرة فرنسية دائمة واستقدام المرتزقة والمستوطنين إليها لترسيخ وتعزيز وجودهم بشكل دائم، ولكن الشعب الجزائري كان دائم الانتفاض ولم تتوقف الانتفاضات والثورات، حتى انتزعوا الاستقلال في عام 1962 بعد ثورة تحرير شعبية اعتمدت الكفاح المسلح استمرت ثماني سنوات عجز الفرنسيون عن قمعها أو تحمل التكلفة العالية لاحتلالهم طويل الأمد، فانسحبوا مذلولين مدحورين دون قيد أو شرط وحصلت الجزائر على استقلالها الكامل.
لم يكن الجزائريون وحدهم في معركة الاستقلال، حيث أشقاؤهم السوريون كانوا قد حصلوا على استقلالهم في العام 1946 وأجلوا المحتل الفرنسي عن أرضهم، وآزروهم بالمال والسلاح والرجال والغذاء، واختلطت دماء السوريين والجزائريين في العديد من المعارك التي شهدتها حرب تحرير الجزائر.
وكان لانتصار الثورة الجزائرية الأثر الكبير على العلاقات الثنائية بين سورية والجزائر حيث تعززت وتعمقت في كل الميادين والمجالات، وما زالت هذه العلاقات مثالاً يحتذى بين الدول العربية لمتانتها وقوتها، منذ عهد الرئيس الراحل هواري بو مدين حتى اليوم، فالجزائر لم تنس وقوف سورية إلى جانبها ودعمها لها في محنتها وهذا ما تجلى بوقوف الجزائريين حكومة وشعباً إلى جانب سورية في حربها ضد الإرهاب، حيث كان للجزائر موقف عربي أصيل يشار له بالبنان، يختصر العمق الحضاري والإنساني والعروبي لشعب قدم مليوني شهيد على مذبح الحرية والاستقلال دفاعاً عن أرضه وحريته وسيادته.