الثورة – أديب مخزوم:
تمر الذكرى السنوية السادسة لرحيل الفنان رضا حسحس (1939 ــ 2016) وتبقى لوحاته في ذاكرة العين ومخزونها البصري، بتنوع مواضيعها وتقنياتها وأساليبها. فتجربته كانت تبحث باستمرار عن تنوعها على الصعيدين التكويني والتلويني. وربما كان التنقل من أسلوب إلى آخر خلال عقود دليلاً على أنه لم يكن يريد أن يحصر نفسه في إطار أسلوبي محدد، إلى درجة تجيير التجربة أو الفكرة في كل مرة إلى انطلاقة جديدة.
هكذا كان يبدو مغامراً ومتمرداً حتى على تجاربه، فعندما وصل إلى أقصى حدود التجريد في لوحاته التي قدمها في بداية السبعينيات، ما لبث أن تناسى نقطة الوصول، وعاد من جديد إلى أقصى حدود التجسيد، حين قدم لوحات واقعية تضاهي في حيويتها الصورة الفوتوغرافية، بعد ذلك برزت تحولات جديدة في مسار تجاربه المتواصلة، وأصبح يبحث عن الإشارات التعبيرية والتكثيف الشكلي، الذي ظهر في لوحاته كأبجدية من التشكيل الشاعري. وحين عرض لوحاته في المركز الثقافي الفرنسي خلال عام 1992 أصبح همه موجهاً نحو لغة تشكيلية جديدة تقتنص إشارات المنظر الخلوي بسرعة خاطفة وبتبسيط كلي، لإبراز حركة تنقلات دائمة ما بين التجريد والتبسيط.
فمن خلال لمسات الفرشاة العريضة، استعاد الطبيعة بأرضها وسمائها وعناصرها وبذلك اختصر صورة الحداثة والفن المعاصر، فالرسم طليق، والألوان لا تركن إلى شكل نهائي، يحركها الانفعال الداخلي الذي يعيشه أثناء إنجاز اللوحة، والتأليف قائم على الرسم المنساب طلاقة وحرية، وفيه مزيج من العنف والحرية في التعبير، واللغة اللونية تحمل الأثر المباشر لتجربة الفن الحديث والمعاصر.
من هنا يبدو الفنان الراحل رضا حسحس في أعمال هذه المجموعة، متعاطفاً مع الفنون الباريسية الحديثة في حبه للألوان الحية والمتفجرة والعنيفة التي نراها في لوحات الطبيعة بشكل خاص، لكنه في تجربته يبقى على صلة باللون المحلي الذي يبرز بشكل مباشر عبر اللمسات اللونية الصريحة والمتزايدة العفوية (الحمراء والصفراء والبيضاء) فاللمسات اللونية العنيفة التي ميزت أعمدة الحداثة الفرنسية في المرحلة الوحشية (ماتيس ودوفي وفلامنك) وصولاً إلى جيل التجريديين تتحول في لوحاته ( وخاصة التي عرضها في الثقافي الفرنسي عام 1992 وتيسر لي حضوره) إلى أجواء اللون الشرقي. حيث منحها مناخية لونية متوهجة قادمة من أجواء اللون الحار السائد في الشرق.
هكذا يظهر الإيقاع التلويني غنياً بالأضواء المشرقة، ليعبر من خلاله بحساسيته الجمالية الحية، عن المناخ اللوني المحلي، الذي يحث الألوان آخر الأمر على التنفس، ويجعلها تحمل إيقاعاً ونبضاً مكانياً عبر فيض الإضاءة الذي ينعكس على المشاهد راحة تترك في القلب فسحة إعجاب ودهشة. حيث كان يبتعد عن المشهد الطبيعي في اتجاه العمق. معارضاً كل ما هو ثابت. باحثاً عن نظرة متبدلة للعالم الطبيعي، يفهم فيها المكان على أنه بسيل التكوين. لتصعيد النبرة الجمالية المحلية. مبدعاً إيقاعات لونية متتالية. تكشف العمق المكاني وتقربه من المشاهد إلى أقصى حد، فالأشكال المشهدية المنظورة تتحول إلى أشكال أولية. يحركها هاجس البحث الدائم عن الحداثة الحقيقية، يسيطر الهم التجريدي ثم يتراجع أمام دلالات الأشكال المستمدة من الواقع، ليدور الكل في عمومية لونية، تكسر رتابة الحركة الطبيعية المرئية. وتحمل نبضاً يتسم بسرعة الإيقاع والحركة والأداء.
وعلى الضد من ذلك كان يقترب في صياغة لوحات الأزهار من أجواء اللمسة اللونية الهادئة والشفافة، التي تجسد ملامح تحوله من مظاهر الفن الأوروبي / لما بعد الوحشية، إلى الفن الشرق أقصوي (الفن الصيني والياباني) بحيث تنحاز الرؤية هنا أكثر فأكثر، نحو إشراقة الداخل أو نحو النسيج البصري المرهف والشفاف.
رضا حسحس من مواليد دمشق عام 1939، وكان رحيله في أواخر تموز من عام 2016 وهو في أوج العطاء الإبداعي التشكيلي، درس الفن في دمشق وباريس والولايات المتحدة الأميركية. وأقام مجموعة واسعة من المعارض المنفردة في الداخل والخارج، كما عمل في تدريس مادة علم الجمال في المعهد العالي للفنون المسرحية، وألقى العيد من المحاضرات حول إشكاليات الفن الحديث والمعاصر.