الثورة ـ أديب مخزوم:
أنضم الفنان التشكيلي علي الكفري إلى قائمة الفنانين الراحلين صباح يوم الأحد 4 أيلول 2022 بعد رحلة طويلة استمرت لأكثر من نصف قرن قدم خلالها، آلاف اللوحات، الحاملة مسحة تراثية وتقنية خاصة، ويعتبر من الفنانين الذين حققوا انتشاراً في مدن عربية، بعد تحوله مع الألوان المائية ثم الأكريليك، في خطوات الوصول إلى مناخات لونية جديدة. والتعبير بألوان محددة وخاصة عن إيقاع التناغم والتناسق والشاعرية والتزاوج بين المواد المختلطة في اللوحة الواحدة .
وهذا يعني أنه طرح أجواء تقنية ولونية خاصة، أيقظت الأشكال القديمة وحركت عناصرها ومنحتها شاعرية بصرية مميزة، مع اهتمام بإبراز المناخ اللوني المعتق من دون الاكتراث بالجمالية اللونية الانفعالية أو العفوية والتلقائية، ففي معالجته للمادة اللونية لم يبق عند استخدامها العادي، بل حملها لمعان المظهر التلويني الزيتي، رغم استخدامه لمادة الرسم المائي والإكريليك، مظهراً مقدرته على الرسم الواقعي الدقيق، والكشف عن أجواء تراثية في طريقها إلى الانقراض والزوال.
ولقد صمم مجموعة كبيرة من الإعلانات العربية والدولية، وأقام أكثر من ثلاثين معرضاً فردياً، إلى جانب معارضه المشتركة التي أقيمت في أكثر من مدينة محلية وعربية .
والمعروف أن تجاربه السابقة اعتمدت في بداية انطلاقته في السبعينات، على صياغة لوحات زيتية ارتكزت على تكثيف رموز صلابة الموقف المتشبث بالأرض، من خلال تجسيد إطلالة المرأة والطفل والشمس وأشكال التراث الفلسطيني، والتركيز على المساحات المتداخلة والمسطحة، ومن ثم تحول في التسعينات مع الألوان المائية والمختلطة إلى قفزة نوعية توقفت على ضفاف الشكل الواقعي، في خطوات الوصول إلى مناخات لونية جديدة والتعبير بألوان (باهتة وخافتة) عن إيقاع التناسق والتناغم والشاعرية والتزاوج بين المواد المختلفة في اللوحة الواحدة.
وهذا يعني أنه طرح أجواء تقنية ولونية خاصة، أيقظت الأشكال القديمة وحركت عناصرها، ومنحتها شاعرية بصرية مميزة. حيث كان يمتلك ذوقاً ومهارة تجعل اللوحة تخرج عن الأنماط المتداولة والمألوفة، كما أهتم بإبراز الدلالة التاريخية، التي تسمح بتزخيم أكثر لرؤية المناخ اللوني المعتق، من دون الاكتراث بالجمالية اللونية الانفعالية أو المباشرة (العفوية والتلقائية).
وإذا كان في لوحاته التي قدمها في السبعينات والثمانينات قد اعتمد تقنية الرسم الزيتي بأسلوب تبسيطي في التعبير عن حياة الغربة والاقتلاع. فإنه ومنذ التسعينات ركز لإظهار مقدرته على الرسم الواقعي الدقيق، والكشف عن قدرات تراثية هامة كان لها الصدى القوي لدى هواة اقتناء الأعمال الفنية، داخل سورية وخارجها، بالأخص بعد اهتمامه المطلق بمعطيات الفن الشعبي (خط وزخارف ورسوم مستعادة مع معطيات المهن أو الحرف اليدوية) ولقد كرس مجمل أعمال محترفة، لتمجيد وإطلاق وصياغة تلك الأشكال التي منحته في العقود الأخيرة سمعة طيبة، إذ استطاع إلغاء الحاجز القائم بين الفن التشكيلي والجمهور وبالتالي نجح في تقريب لوحته من الناس.
ولم تكن العودة إلى الرسم الواقعي مشكلة في تجربة علي الكفري، لأنه يعلم أن المشكلة الحقيقية تكمن بالوقوف عند ظواهر الموروث، وعدم تفهم حقائق التقنيات الحديثة، وقدرة الفنان على التجاوز في مسائل التكوين والتصميم وإبراز اللمسة الحاملة حرارة خاصة.
في مرحلة لاحقة دمج فيها بين عالمي الرسم والخط والزخرفة، وتميزت بأجواء شاعرية وشكلت تحولاً في مواضيعه من معطيات الفن الشعبي وأشكال المهن والحرف اليدوية إلى أجواء العمارة العربية والشرقية بقبابها ومآذنها وجدرانها وأقواسها وأبوابها ونوافذها.
واللوحات التي قدمها علي الكفري في معارضه الأخيرة، وإن كانت تعتمد على تقنيات لونية مختلفة عما قدمه في معارضه السابقة، فهي من الناحية التشكيلية تعيدنا إلى بعض أجواء بعض لوحاته التي قدمها في السبعينيات والثمانينات، على الأقل في اتباعه أسلوب كسر المشهد الواقعي باستخدام التشكيلات الهندسية البارزة في استقامة الخطوط وتقاطعاتها التي تترك زوايا حادة وقائمة ومنفرجة.
وإذا كان قد استخدم هذا الأسلوب في بعض لوحات مرحلة بداياته (والتي برز من خلالها كفنان ملتزم بقضايا شعبه ووطنه)، فإنه في هذه مراحله الأخيرة كان يستبدل العناصر الإنسانية البائسة والمنكسرة بمشاهد المدينة القديمة المترسخة في الذاكرة والوجدان. كما كان يستبدل تقنية الرسم بألوان الزيت بتقنية الاكريليك. ورغم حضور الجملة المقروءة في أحيان كثيرة في بعض لوحاته، فإنه في بعضها الآخر أستخدم طريقته السابقة في استخدام الخطوط المستقيمة التي تخترق الحروف والكلمات، وهذا الأسلوب كان يستخدمه أيضاً في بعض اللوحات التي يجسد فيها المرأة الرمز ومن خلالها يكسر التوازنات والايقاعات فلا تتساوى الزوايا ولا تتقابل، بل تتعرض دوماً لمفارقات عفوية وتلقائية تترافق وعقلنة الشكل الهندسي.
