مكتبات تودّع روادها

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:

من المؤسف والمحزن أننا أصبحنا شهود على ما يصيب المكتبات. قصة موت معلن هو العنوان الأنسب الذي يمكننا استعارته من إحدى روايات الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز لنطلقه على سلسلة المكتبات التي تعلن استسلامها أمام الزحف الاستهلاكي في مدينة كانت قبلة للمثقفين ولحركة صناعة الكتاب ككل ولا نستثني من تلك الحالة أي مدينة سورية. هي المأساة التي تركت ندوبها على جميع مرافق الحياة العامة للمدن السورية الكبرى.
فهل تَصدِق نبوءة الكاتب امبرتو إيكو وتتحول المكتبات الخاصة والعامة إلى مجرد متاحف للكتب تثير الغرابة لدى الأجيال المقبلة التي سرقتها ثورة التواصل الالكتروني، ولم يعد لها صلة بالكتاب الورقي الحميم؟ «لقد أجهز إعلان مكتبة نوبل الشهيرة الواقعة في قلب مدينة دمشق على آمال العديد من القراء، الذين يعتبرون هذه المكتبة من أبرز معالم الحياة الثقافية السورية. آخر مكتبة حتى الآن تعلن عن إغلاق، منهية بتلك الخطوة قرابة خمسة عقود من علاقة تاريخية بين جمهور القراء والكتّاب.
أدت المكتبة فيما مضى وسيطها التقليدي، ولكن لا أحد يستطيع أن يتكهن إذا كان إغلاق مكتبة نوبل هو الأخير، حيث سبقها بتلك الخطوة اختفاء العديد من المكتبات من معظم الحياة الثقافية للبلاد منذ عشر سنوات. لتتقدم محال تجارية وتحتل مواقع هذه المكتبات ومبانيها، وتحويلها بين يوم وضحاها إلى مقرات لشركات صرافة، أو مقاه لتدخين النراجيل، وفي أحسن الأحوال إلى محال لبيع الحلويات والأحذية والسوبر ماركات. ونذكر منها إغلاق مكتبة ميسلون القريبة منها، في شارع أخذت المكتبة منه اسمها، شارع طالما شهد صخبنا أيام مهرجانات السينما ، حين كان يضج بالحياة التي نحبها. كانت الكتب غالية بالنسبة لنا، لكن بحثنا عن كتابٍ ممنوع كان يعني زيارة «المكتبة العمومية»القريبة منهم أيضاً، وبحثنا عن شريط كاسيت نادر كان معناه أن نطرق باب «ميسلون» بحيث شكلت تلك المكتبات جزءاً من ذاكرتنا الجمعية . وحتى بوسعنا القول إنها مكتبات شكلت جزءاً من ذاكرة دمشق وهويتها الثقافية والاجتماعية. وكان لا يمكن لأحد من المهتمين بعالم الكتب أن يمر من ذلك الشارع بين المحافظة وفندق الشام إلا أن تستوقفه واجهة تلك المكتبات ولو كان في عجلة من أمره لإلقاء نظرة سريعة على العناوين، لربما كان معروض كتاب لم يسمع به سابقاً.وبغيابهم تغيرت ملامح هذا الشارع. وللحقيقة أنه ومنذ قرابة عقد تتغير دمشق.
إذ كان يكفي المشي من أمامهم حتى نتذكر أن وجهاً من وجوه المدينة التي تشبهنا ما زال موجوداً. وهذا كان يعطينا أملاً بأن الثقافة باقية.
حالة غياب لمكتبات عريقة في هاوية الأزمات الاقتصادية الخانقة التي نعيشها  يضاف إليها العزوف العام عن القراءة. ربما يقول قائل: إن حال المكتبات لا يمكن فصلها عن حال البلد الذي يشهد أزمة اقتصادية وحصار حتى طال الكتب أيضاً ودور نشر وطباعة في البلاد، والتي إما أقفل أصحابها الأبواب أو « ضبوا الشناتي « مهاجرين إلى الخارج أو تعرض أغلبها للتخريب، وبات إدخال أي كتاب بسبب الحصار أشق من إدخال أي مادة. وفيما مضى كان يكفي أن يطلب منك صاحب المكتبة مهلة ثلاثة أيام ليكون الكتاب في متناول يديك. بينما حين تهم الآن بالبحث عن أي كتاب يصدمك جواب أصحاب المكتبات: «ما تحاول، ما بيلتقى»، تسأل عن إمكانية جلبه من أي محافظة مثلاً، فيأتي الجواب على شكل ضحكة: «اذا التقى، بكون كتير غالي، وعالأغلب مفقود»،وهذا ما يؤكده صاحب مكتبة الحقيقة وهو رجل قارئ من الطراز الرفيع كما يتبين لزائر المكتبة من الدقائق الأولى: «نعاني من صعوبات جمّة كأصحاب مكتبات أولها صعوبة استيراد الكتب بل بالأحرى استحالة ذلك، خمسون بالمئة من الكتب التي كانت تتوفر لدينا أضحت مفقودة و ما عاد بإمكاننا ترميم النواقص» ويردف قائلاً «كانت دور النشر تقدم لنا حسماً قد يبلغ 20/25 بالمئة من سعر الكتاب، حالياً يقولون لي هذا سعر الكتاب، لا مجال للحديث عن حسومات، فاذا كانت دور النشر تبيع الكتاب ب 500 ليرة سورية فقد أصبحت كل مكتبة تزيد على هذا السعر على هواها عند بيعها الكتاب للمواطن، هناك خلل واضح في تنظيم أسعار الكتب حالياً». اذاً باتت هناك لائحة بأسماء الكتب المفقودة وليس الأشخاص وحسب، تبحث عن خطة بديلة تباغتك ضحكة صاحب المكتبة الممزوجة بالغصة فلا تجد سوى هزة من رأسه فيها الكثير من اليأس، ربما لا مجال للمرواغة أو التحايل على مخلّفات الحروب في هذه البقعة من العالم. وبالطبع أدى هذا الأمر إلى انفجار اسعار فاقت طاقة المواطن السوري اللاهث وراء تأمين ما يسد به رمقه ويجعله يواصل حياته. واتجاه الأغلبية إلى الكتب الالكترونية أو إلى مكتبات الرصيف التي تعتمد على نسخ الكتاب المزور والذي تبيعه بنصف قيمته الفعلية ضاربة عرض الحائط بموضوع حقوق الملكية الفكرية . وحين طرحنا على صاحب دار كنعان للطباعة والنشر سعيد البرغوثي برر لزملائه من أصحاب المكتبات المتبقين منهم ب « القابضين على الجمر « معتبراً أن تداول الكتاب في المحصلة هو تجارة كما غيره من الأعمال، وهدفه تحقيق ربح ما، سوى أنه تجارة نبيلة. نغادر دار كنعان متوجهين إلى شارع البريد القريب حيث تقع مكتبة النوري أقدم مكتبات دمشق والتي تأسست عام 1932، وافتتحت الفرع الأشهر لها عام 1969 ليكون أكبر مكتبات المدينة مساحة. الأمر الذي كان يتيح للزائرين فرصة التجول بين رفوفها كتفاً إلى كتف وتبادل الأحاديث مع أصحابها. صاحبها أقر بأنه « في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي نعيشها من الصعب توقّع ما إذا كانت الأمور ستجري نحو الأحسن أوالأسوأ» ويبعث فينا التفاؤل حين يقول لنا « الأمور ليست بالسوء الذي يجري الحديث عنه. إذ أن هناك من لا يزال يدخل المكتبة ويشتري منها، كما لو أن الأمر طقس عبادة لديه. رغم الأوضاع المادية الصعبة التي تمر بها البلاد.» وندلف من شارع البريد إلى منطقة الحلبوني، سوق الكتب الأشهر ومركز تجمع بعض أقدم دور النشر. فإن كان قد تراجع حضور المكتبات ذات الطابع العلماني من جهة العناوين التي تبيعها، نتأكد هنا أن هذا التراجع كان على حساب طغيان مكتبات أخرى.
الأكيد أن ثمة خللاً كبيراً أصاب العلاقة بين الكتّاب ودور النشر والمكتبات، والجهات المعنيّة بهذا القطّاع. فدور النشر السورية لا تعتمد اليوم على المكتبات السورية لبيع كتبها، بل تعوّل على المشاركة في معارض الكتب في الخارج. والمكتبات بدورها لا تنتظر الزبائن السوريين، أو أقلّه المقيمين منهم داخل البلاد. فيما يعتمد الكثير من «مكتبات الحلبوني» على شراء المكتبات المنزلية، التي تُذكّر بوجود جيلٍ من المثقفين السوريين الذين أفنوا حياتهم يجمعون الكتب ويكدّسونها، وباتوا اليوم فئة نادرة في مجتمعٍ تقضم الأزمة الاقتصادية من قدرته الشرائية، وتغير من أسلوب حياته يوماً بعد يوم.
ولا يسعنا سوى أن نتساءل في ظلّ هذا التردي المتسارع لمعالم طبعت حياتنا الثقافية في أوج ازدهارها : أي هو المعلم الثقافي الذي سيختفي الآن ؟
العدد 1111 – 13- 9-2022

آخر الأخبار
"الشيباني" يستضيف "غراندي" في دمشق.. اتفاق على تعزيز آليات العودة الطوعية للسوريين "المركزي" يذكر بالتعميم 1831.. ويدعو المتعاملين للشكوى في حال عدم التزام المصارف "هالو ترست": سوريا أخطر دولة في العالم بسبب الذخائر غير المنفجرة تقرير أممي: " قسد " وداعش جنّدا مئات الأطفال السوريين في صفوفهما زيارة وزير الصحة إلى تركيا.. خطوة استراتيجية لإعادة تأهيل القطاع الطبي السماعيل لـ"الثورة":نظام استثمار المدن الصناعية الجديد يعكس التزام الحكومة بتحفيز بيئة الأعمال الشَّبكة السورية" تقدم رؤية لخطة وطنية مدعومة دولياً لعودة اللاجئين السوريين عون يدعو لتكثيف الجهود الأممية لمساعدة السوريين على العودة لوطنهم الكرملين: الحوار مع دمشق ضروري لضمان مصالح روسيا الصراع المفتوح مع إيران.. التحديات والفرص أمام سوريا الجديدة جفاف غير مسبوق يهدد الأمن الغذائي في سوريا وتحذيرات أممية من كارثة وشيكة قربي لـ"الثورة": تحديد موعد نهائي لصرف الرواتب ينظم الدورة المالية جلسات تشخيصية بحلب لتعزيز الاستثمار وتطوير القطاع السياحي فوضى أنيقة".. يجمع بين فوضى الحروف وتناغمها مباحثات تعاون وتطوير بين التعليم العالي وأذربيجان  محمية الفرنلق...حاضنة طبيعية للتنمية المستدامة وزارة الإعلام تتابع انتهاكاً بحق صحفي وتؤكد التزامها بحماية الحريات بحوث تطبيقية لمجابهة التغير المناخي وتعزيز الأمن الغذائي بين "الزراعة" و" أكساد"   مرسوم بتعيين طارق حسام الدين رئيساً لجامعة حمص القنيطرة.. خدمات صحة نفسية للطلاب وذويهم