الملحق الثقافي:
انشغل المفكرون العرب كما غيرهم بالشأن الثقافي, وقدموا دراسات هامة جدافي هذا الإطار ، لكنها للأسف وكما العادة ظلت حبرًا على ورق، وبدا أن العمل في الشأن الثقافي والتنظير له أمر غير مرغوب به، لابل إن العاملين فيه أنفسهم بدوا في الآونة الأخيرة بحالة فصام حقيقي، إذ كيف لمفكر أو عالم اجتماع أن يعبر انه اكتشف جذوره الاثنية فجاة، أو أنه من انتماء طائفي محدد, وهو الذي كتب وقدم ونظّر في الفكر والثقافة ؟
أسئلة كثيرة يمكن ان تطرح وتبحث عن إجابات لحال الثقافة والمثقفين العرب، والأسئلة الاكثر مرارة هي التي تتولد اليوم إذ لنا ان نسأل : أهو عجز ثقافة ام عجز مثقفين، إن الأمر في الاثنين معاً ؟مما لاشك فيه ان الثقافة والمثقفين العرب ظلوا في اطار الفعل النظري، ولم يكن البناء الثقافي والمعرفي والعلمي التنويري همهم الاساس، ولابأس هنا أن نذكرهم.
بالرواية التي تقول ان إمارة قديمة ظلت لسنوات طويلة تعمل على بناء سور حول تخومها، يمنع قدوم الأعداء ويحصنها من أي غزو، وبعد ايام من إنجاز السور، لم يجد الغزاة كبير عناء لدخول الامارة، لانهم دخلوها من الباب الرئيس.
اذ فتح لهم على مصراعيه، ويعلق قائلاً: لقد قضوا عقوداً من الزمن يبنون سوراً من حجارة، ولكنهم نسوا أن يبنوا الحارس الذي فتح الباب امام الغزاة، نسوا ان يبنوا الانسان ويرفعوا اسواره، فكان ما كان.
تأسيساً على هذه الواقعة التي تنطبق على سور الصين العظيم اذ بقي الصينيون القدماء مئة عام يبنونه، لكنهم بعد ايام تعرضوا لغزو همجي ومن بواباته، فكان أن اعادوا بناء وتأهيل من بنى السور، ثقفوا الإنسان، واعادوا صقله لتزداد قيمه وحبه لأرضه ووطنه، واليوم في ظل التقنيات وأحدث اسلحة الفتك والدمار المنجزة غربيا، ولاسيما في الولايات المتحدة، لم يعد أي قيمة تذكر لأي قوة باطشة تواجه الغزو العسكري، الا قيمة واحدة، وسلاح واحد هو الوعي والمعرفة، والثقافة التي تعتبر الحصن الاول والأخير، وخط دفاع اذا ما تحطم فلا قيمة لأي مواجهة أبداً، ولابد من اعادة البناء من جديد لهذا الخط الذي تدمر.
في القرن الحادي والعشرين، الذي يرى أحد اهم المشتغلين بعلم الاجتماع (الان تورين) انه أي القرن الحادي والعشرين هو قرن الثقافة، فقد اخذ هذا المفهوم عودة غير مسبوقة الى الساحة الفكرية المعاصرة لدرجة أنه أخذ يحتل مكانة مركزية تذكرنا بالمكانة الفائقة التي احتلها مفهوم الاقتصاد في دراسة العولمة ونشوء النظام العالمي الجديد في تسعينيات القرن المنصرم، وحسب ما قاله الدكتور رشيد الحاج صالح في عالم الفكر الكويتية العدد الاخير وتحت عنوان: العودة من المجتمع الى الفرد، المقولات الثقافية لفهم عالم ما بعد الحداثة عند الان تورين، وطبعا استشهادا به، أي لتورين: يضيف صالح قائلا: ونقلا عن تورين: ان أصحاب النقد الثقافي يعزون هذه العودة الى التفكير مابعد الحداثي في مشكلات العالم والحضارات المعاصرة تبين ان أصل تلك المشكلات يعود الى الاختلافات الثقافية بين الجماعات الأمر الذي ادى الى ظهور كثير من الصراعات الثقافية، كما تبين لهم ان المقولات الاقتصادية كثيراً ما فشلت في تفسير المشكلات المعاصرة وفهمها لان الانسان كما اتضح لهم كائن ثقافي بالدرجة الاولى، وليس كائناً اقتصادياً، وإن الحقوق الثقافية أهم بكثير من الحقوق الاقتصادية. بعد قرنين..؟
هل نراوح بالمكان, أليس من حقنا أن نطرح عشرات الأسئلة الكبرى ونحن على تخوم تحولات هائلة لم تتوقف أبداً, يوم انهار الاتحاد السوفييتي, كانت رؤية القائد المؤسس حافظ الأسد هي عين الصواب حين قال بما معناه : إن الذي يجري تحول كبير وزلزال سوف تتبعه ردات كثيرة وتحولات قد لا تستقر لزمن بعيد، وبعيداً عن أي إسقاطات سياسية، فما جرى كان انهيار منظومة تفكير, في السياسة والفكر والأدب، وغير ذلك من العلاقات التثاقفية بين حضارات العالم، هذا كله يدعونا لأن نسأل أنفسنا : أين نحن مما يجري اليوم، وهل بقيت القضايا الفكرية والسياسية التي انشغل بها مفكرونا منذ القرن التاسع عشر، أي بداية اليقظة العربية، هل بقيت هي هي؟
بل ما الذي تحقق, وأين وصلنا ما ردات الفعل تجاه القضايا الكبرى، ومن المعروف أن أي قضية وتحول سياسي ليس إلا نتيجة حتمية لتحولات ثقافية وفكرية واجتماعية, واقتصادية، تمظهرت بالحظات التحول الحتمية بشكل سياسي، وأخذت لبوسه، ولكننا لوفككنا بنيتها وقرأناها جيداً لوجدنا ما وراء الأكمة، ووضعنا أيادينا على الجرح النازف.
لن ندعي أننا قادرون على تحديد ما الذي تغير، وهل حلت أولويات مكان الاخرى، لكن الأمر ليس بمثل هذه الصعوبة, فثمة دراسات مهمة قدمها كتاب ومفكرون, تناولوا من خلالها ملامح القضايا الفكرية التي شغلت المفكرين والمثقفين العرب خلال القرنين الماضيين, ومن هؤلاء المفكر السوري الراحل جلال فاروق الشريف, الذي توقف في كتابه المهم :بعض قضايا الفكر العربي المعاصر, عند مثل هذه المراجعة للقرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين حتى منتصفه, ومن خلال تصنيفه المفكرين العرب يبرز ما كانوا يعملون عليه، فهم حسب تصنيف الشريف وحسب اتجاهاتهم حينها : = لقد كان الطابع الاساسي للفكر العربي منذ أن ظهر المثقفون العرب الأوائل في القرن الماضي ( صار الآن ما قبل الماضي) هو أنه كان فكراً سياسياً بمعنى أن الشعور الملح بالحاجة إلى تطوير المجتمع العربي وجعله على مستوى العصر الحديث كان هدفه الأساسي.
=لقد نشأت الفكرة كنتيجة مباشرة لمتطلبات الواقع العربي الملحة بعد أن بدأ هذا الواقع يتحرك، لاصطدامه بالاستعمار, فقد ايقظت الصدمة الاستعمارية التفكير العربي على العصر الحديث، وعلى ضرورة تجديد المجتمع العربي وتحديثه.
= نتيجة السابق فإن الفكر العربي في يقظته ( القرن 19) كان محاولة لتقديم أجوبة عن مسائل راهنة مطروحة عليه, هي : كيف يمكن تحديث المجتمع العربي, وعلى أي أساس يجب أن يتم هذا التحديث ؟
= برز لدى المثقفين العرب، اتجاهان : الأول سلفي يقول بالعودة إلى التراث وتحديث المجتمع العربي من خلاله وتطويره.
الثاني : جدي راديكالي يقول بتحديث المجتمع العربي بالاعتماد كلياً على معطيات العصر الحديث، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.
هذه هي الخطوط العريضة للقضايا التي شغلت المفكرين العرب في القرنين الماضيين, التاسع عشر والعشرين, وقد لخصها الشريف بقوله : إن السلبية البارزة عند الكثيرين من المثقفين العرب الأوائل هي ضعف رؤيتهم للمسألة القومية وارتباك هذه الرؤية وتشويشها واضطرابها، ولعل ذلك راجع إلى ضعفهم الفكري بصورة عامة من جهة، وإلى قسوة الواقع السياسي من جهة ثانية, متمثلا في شدة وطأة الاستبداد العثماني.
العدد 1113 – 27- 9-2022