الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
سؤال يتردّد من أفواه كثيرين وعلى أسماع كثر، وفي مختلف المناحي والمجالات الحياتيّة؛ من الثقافة إلى السياسة، إلى التعليم، إلى الاقتصاد والمجتمع، إلى الإدارات والمؤسّسات والهيكليّات المختلفة.. ويشترك في إطلاقه المسؤولون والمعنيّون بالأمر وغير المعنيّين؛ وبنيات صافية، أو بغايات غير بريئة؛ بتعبير آخر: إنّه كلام حقّ يراد به باطل!
وبصرف النظر عن بعض الاستسهال في محاولة التعامل مع السؤال، ومع الحال عامّة؛ بتكملته إلى: أين البديل، الذي يناسبنا؟! وحينئذ، لا تتطلّب المسألة البحث عن أيّ جواب؛ فإنّ من المناسب حقّاً، التخويض أبعد وأعمق؛ لأنّ الحال تحتمل هذا، وتقتضيه، وتستدعيه! فالجواب المفترض، المنتظر، المقرّر سلفاً، للسؤال المراوغ: أين البديل؟! سرعان ما ينفر؛ بإفحام وتشفٍّ: لا يوجد بديل!
وبقدر ما يبدو الجواب وسؤاله شائعَين حاضِرَين ساذجَين قارَّين؛ فإنّ ما يضطرم وراءهما، وأمامهما، عكِر، ومثير، وفظيع، ومدمّر، ويفتح أبواب جهنّم على من يعي، ويتحسّس، ويستشعر، ويرى.
ففي الوقت، الذي يحمل هذا السؤال، في ثنيّاته، أسئلة وتساؤلات شائكة، حول مسوّغات إطلاقه، ودرجة صحّته ومصداقيّة طارحيه، فهو يغصّ بما هو أوجع: لماذا كان هذا ويكون؟! ومنذ متى؟! وكيف قدّرت الأقدار، ورسمت الدروب، ورصدت المعابر، ونصبت الكمائن، وتمّت الصفقات؟! ومن المسؤول عن ذلك؟! وإلامَ؟! وحين يحاول مطلقوه استغلاله للحفاظ على واقع معيّن، والسعي إلى استفحاله إلى أقصى مدى ممكن، على الرغم من الاعتراف الضمنيّ بأنّ ثمّة حاجة أو حاجات لتغييره، أو التغيير فيه؛ فإنّهم؛ سواء علموا، أو لم يعلموا؛ بجهل أو استجهال، يدينون أنفسهم بما وصلت إليه الأمور؛ فإذا كانوا مسؤولين عنه، وفيه؛ فلماذا لم يسعوا إلى علاجه فيما مضى؟! وهل هذا يسوّغ لهم ترك الأحوال على ما هي عليه؟! وتصنيم ذواتهم، أو تثبيت من في أمرتهم، في مواقعهم؟! وإذا لم يكونوا في لعبة المسؤوليّة؛ فلماذا لم يحاولوا مرّة ومرّات لتغييره؟! سواء أكان بالمبادرة ليكونوا هم البدائل، أو ليطالبوا بمن هم مناسبون، ويشيروا إليهم، ويقدّموهم؟! والأسئلة الموجعة الأعمق والأخطر على الجميع؛ فوق، وتحت- مع عدم اعترافي بهذا التصنيف، ولكنّه مفهوم دارج على الألسن وفي القناعات؛ للأسف- تبدأ بـ:
لماذا لم تجهّزوا بدائل أكْفاء؛ بدلاً من أن تنشغلوا بتربية مناسبين لكم؟!
ولا تنتهي بـ:
لماذا لم تسمحوا لمن يظهر كفاءة في مجال معيّن، أن يأخذ مكانه المناسب؟!
ومروراً بـ:
لماذا لم تخلقوا المناخ، الذي يولّد تلك البدائل، التي تليق؟!
ولماذا لم تبحثوا عمّن يملكون إمكانيّات ومواهب وطاقات مميّزة، وتقدّموا لهم فرصاً لإثبات وجوده، وبذل طاقاته بما يفيد، وينفع المجتمع والبلد كلّه، وليس فئة أو مجموعة؟!
ولماذا تبقى بعض المواقع شاغرة، أو يتمّ التكليف بإدارتها؛ من دون تثبيت، زمناً قد يطول؟!
وأعود إلى القول: إنّ هذا يشمل الجميع، وفي مواقع الفاعل والمفعول به في التعيين والترشيح والانتخاب؛ ولا سيّما أنّ هناك من يعودوا، أو يُعادوا! إلى مواقعهم في دورة جديدة ودورات، ولم تصدر عنهم، في دورة سابقة، حركة، ولا نأمة، ولم يكن لهم حضور، وموقف، ورأي ومبادرة! فكيف لا يخجلون من الترشّح؟! وكيف يتجرّأ أحد أو عديدون على ترشيحهم؟! وكيف تُقدِم مؤسّسة صغرى أو كبرى على تبنّيهم؟! ولماذا يتمّ انتخابهم بكثافة؟! ومن ثمّ تبوّؤهم ما لا يستحقّون بتفاخر ومنّة؟!
أعرف أنّ هناك من سيقول: لا يريدون، ولا يسمحون، ولا يمنحون الفرص… ولكن سأقول: هل حاولتم؟! هل نافستم؟! هل أحرجتم القائمين عليها؟! هل قدّمتم أنفسكم، أو سواكم، بدلاء حاضرين مستعدّين لتحمّل العبء، الذي يتطلّبه الموقع؟! هل سعيتم لامتلاك المؤهّلات التي تخوّل للمقارنة المحسومة النتيجة؟! بدل أن نقول: إنّ النتيجة محسومة؟! فنمهّد بذلك لهم السبل؛ ليفعلوا ما يبتغون، ويحقّقوا ما يهدفون إليه!
أليس من الأفضل بما لا يقاس، أن نقول، ويقال: إنّ المختارين هم الأكفأ والأحسن خلقاً، من أن نقول: إنّهم الأقلّ سوءاً؟! كما يُتداول للأسف؛ استسلاماً وعجزاً وخيبة! أم إنّنا نمارس مازوشيّة ومظلوميّة؛ بالتعبير الاستسلاميّ: «ليس بالإمكان أفضل ممّا كان»، أو أن نعود إلى القول المضلّل الواخز المشرِّخ: أين البديل؟!
وحين يعود هذا، أو ذاك، مكرّماً معزّزاً، أو ينجح واحد من هؤلاء، نتقرّب منه، ونمتدحه، ونطلب منه، ونقدّم له، ونبجّله، وطلباته أوامر، ورغباته أهدافنا، وأقواله حكم؛ حتّى إن مارس خطأ نراه، أو نشهد تناقضاً ما بين قوله وعمله، أو بين قول له وقول! فيصدّق نفسه، ويغترّ، ويتفرعن، ويتعنتر، وما من أحد يردعه عن أمر، أو قرار، أو سلوك؛ وإذا ما حدث أن حيّد عن مكانه؛ فسيفقد مكانته الموهومة لدى الجميع، وسينتقل من معصوم إلى مسربل بالأغلاط والارتكابات، ولا أحد يستمع إليه، أو يردّ عنه، أو يذكره بما قد يكون قد قام به من فعل حسن؛ تُرى.. ألا نكون بهذا قد جنينا عليه، وأحرقناه، وورّطناه، وجنينا على أنفسنا والجيل والأجيال، أضعنا علينا وعليهم أعماراً وجهوداً وطاقات، وفرصاً واحتمالات؟!
ليست الشهادة العلميّة مقياساً وحيداً؛ وإن كانت مهمّة؛ فقد صارت توهب شهادات خلّبيّة عليا؛ ولا الشهرة عنواناً؛ فهناك من يلمّع، ويزيّن، وهناك من يخفي، ويعتّم، أو تطفأ منابع الضوء عن قدرات وإنجازات، وتوجّه إلى أحياز ومكاسب وكائنات!
إذأً؛ أين البديل؟!
ليست أحجية، ينبغي حلّها في وقت ضاغط، ولا متاهة، يُفترض الخروج منها في اللحظة؛ إنّها وعي بضرورة وجود البدائل في كلّ وقت، والعمل على إيجادها، وممارسة جادّة في الوصول إلى من يستحقّ هذا المكان، ويليق بذاك؛ إنّها إرادة خيّرة، ورغبة صادقة، ومسؤوليّة جادّة؛ إنّها عمليّة مؤسّسيّة، وجماعيّة، وخبرة متّصلة، ومعايير متّسقة ومنسجمة مع الغرض.
إنّ الأخطر أن يكون أحد منزّهاً عن الخطأ، مستبعَداً من المساءلة، والانتقاد، والمحاسبة، لا يأتيه الباطل من صوب؛
الأخطر أن نغضّ الوعي والنظر عن أحد أو جهة، ثمّ نوجّهها دفعة واحدة إلى ذلك، أو تلك.
الأخطر ألّا تكون هناك معايير لدينا نحن المرشَّحين والمرشِّحين والمختارين والمقيّمين والمحاسبين.
الأخطر أن نبقى من دون مبادرة، من دون مبالاة، من دون حيويّة؛ للمبادرة والسعي والتساؤل والسؤال.
الأخطر أن نبقى نردّد، ونتت وإنجازاتنا والجيل والأجيالاط والارتكابات، ومع الحال عامّة؛ بتكملة السؤال إلى: أين البديل، الذي يناسبنا؟!وسّل؛ حتّى بيننا وبين أنفسنا، في صحونا، أو هجعتنا؛ تلقيناً، أو اقتناعاً، أو جهلاً، أو تهرّباً من المسؤوليّة، وفي كلّ وقت وآن: أين البديل؟!
العدد 1113 – 27- 9-2022