هيغل وروح الأمة

 

قلة من المفكرين والفلاسفة أولئك الذين تمكنوا من تغيير فهم التاريخ وفلسفته ويأتي في طليعة هؤلاء الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل من خلال تأثيره على فكرة الوطنية الألمانية لجهة أن نظرته الثاقبة وقراءته للتاريخ لم تكن مألوفة من قبل، فقد اتفق هيغل مع الفكر المثالي آنذاك في أن الإنسان لا يستطيع أن يخرج عن طريقة تفكير زمانه ومجتمعه وبيئته وأنه يعيش حالة أشبه ما تكون بالتنويم الاجتماعي، أي أن الفرد نسخة عن ثقافة مجتمعه ولكن هيغل ما لبث أن كسر تلك النظرية بقوله إنك لا يمكن أن تكون كمن كان قبل مائة سنة ولا أن تكون شبيه من سيكون بعد مائة سنة لذلك لا يمكن أن تضع قانوناً أو تشريعاً أو فلسفة تلائم كل الأزمان بل يجب أن نحصر أفكارنا لكي نعالج مشاكل عصرنا ومع تقدم الزمن من الممكن لأي فكرة مهما كانت صحيحة أن لا تلائم الأجيال اللاحقة ما لم تعدل أو تتطور أو تستبدل بأخرى فالفكرة التي تزوجت هذا الزمن وفق ( هيغل ) ستكون أرملة في زمن قادم.

يطرح هيغل سؤالاً مركزياً هل أحداث التاريخ أحداث عشوائية أم أن هناك نمطاً فيه ؟ فإذا كان عشوائياً فلا فائدة من دراسته فهو يرى أن ثمة نمطاً في التاريخ يكرر نفسه عبر الزمن فبالتمعن الجيد له ولأحداثه نكتشف أن ثمة قانوناً للتطور التاريخي وعلى تلك الفرضية طرح سؤالاً ما الذي يتغير في التاريخ فوجد أن كل مرحلة تاريخية هي النتاج المنطقي للمرحلة التي سبقتها ولكن ليس كما اعتدنا عليه، فالتاريخ لا يعيد نفسه حسب هيغل حتى الأحداث المتكررة لم تكن مركز اهتمامه فكل جيل مختلف عن سابقه فالتغيير يأتي من المفاهيم الجوهرية للمجتمع ومنها قانون القوة ففي بداية البشرية كانت القاعدة الحاكمة هي اللاقانون فأنت تحتاج إلى قوة أو سند لكي تعمل ما تشاء ثم المرحلة الثانية الهرمية في فرض السلطة والقانون بتسلسل هرمي، مسؤول عن قرية مسؤول عن مدينة ثم مقاطعة وهكذا دواليك، أما المرحلة الثالثة حسب هيغل فهي سيادة القانون فهو يرى أن هذه المراحل الثلاث اللاقانون والهرمية وسلطة القانون وهي مراحل أنتجت كل واحدة منها ما سبقتها وفق قاعدة الجدل الهيغلي وهنا يطرح هيغل مفهوم الحرية، فالحرية هي أن تفعل ما يحلو لك وهذا ما يراه هيغل في مرحلة اللاقانون فبعدم وجود سلطة الكل يفعل ما يشاء ولكن هذه الحرية بتلك الصيغة لم تكن كافية فعندما تمارس حريتك في الزراعة أو الصناعة فقد يأتي أصحاب السطوة والقوة ليأخذوا محصولك أو إنتاجك فتصبح الحرية هنا لا حرية لأنك ستمتنع عن الزراعة أو الصناعة في سنة قادمة لجهة عدم توفر الأمان، فيصبح التطبيق الصارم للقانون هو المطلوب حتى لا يأخذ أحد جهد الآخرين فأنا أصبح حراً لأن القانون يحميني عبر الشرطة والقضاء ولكن الهرمية في السلطة لا تمنحني الحرية الكاملة فالحاكم قادر أن يأخذ قسماً أو حصة من إنتاج أرضي وعلي أن أرضخ له لأنه يقدم لي الحماية ولكنه يستغلني بطريقة أخرى فالحاكم الذي منحني الحرية بقوة القانون يسلبها مني بطريقة أخرى فثمة تناقض بين المسألتين أما المرحلة الثالثة فهي مصالحة بين المرحلتين.

فالمسألة الأولى تسمى الطريحة وفق هيغل ،أما المرحلة الثانية فتسمى النقيضة والثالثة تسمى النتيجة وهنا نصبح أمام الجدل الهيغلي الفكرة ونقيضتها ثم الفكرة التي هي نتاج تفاعل الفكرتين السابقتين فهي تملك الصفات الجيدة لكل من الفكرتين السابقتين والحد الأدنى من سلبياتهما، فإيجابية المرحلة الأولى تكمن في حرية خياراتي أما المرحلة الثانية فتكمن في أن القانون يحميني أما المرحلة الثالثة فهي في العصر الحديث الحرية المحصنة بالقانون لذلك وحسب قانون هيغل فإن سياق التاريخ هو الرغبة في الحرية التي يعرفها بمفهوم يتغير من جيل إلى جيل وهو الذي يقود للتغيير المستمر فالبعض يفسرها بأنها توصل إلى مفهوم الديمقراطية ولكنه يضعها في مفهوم مركب بأنها مزيج من الروح والعقل والروح هنا هي روح الأمة الألمانية والفكر الجماعي للأفراد الذين يتشاركون في نفس الرغبات.

فلكل أمة روح تقودها وتسوقها فإذا كانت الأمة تتطلع إلى الحرية فأن هذا يعني تغيير مجرى تاريخها فالتاريخ هو انتقال نحو العقلانية والطريق إلى الحرية عند هيغل يكمن في المعرفة من فكر منطقي إلى فكر أكثر منطقية فالتاريخ سير نحو العقلانية ولكن لن نصل إلى مرحلة الكمال أو المدينة الفاضلة عبر العقلانية على أهميتها فالتنبؤ بالمستقبل هو أمر مستحيل ولكن البناء على معطى القوة العلمية والعقلية والروح الوطنية والحماس نحو تحقيق الأهداف يمكنها تحديد ملامح عامة لمستقبل مشرف للأمة، من هنا توقع هيغل قبل مائتي سنة أن ألمانيا ستخوض حروباً كبرى وستخسرها وهو ما حصل بعد مائة عام أي الحربين العالميتين الأولى والثانية ولكنه توقع واستنتج أن ألمانيا ستقود أوروبا بعد ذلك، والسبب وفق هيغل يكمن في أن روح الأمة الألمانية لم تهزم والحقيقة نجد اليوم أن ألمانيا هي أقوى دولة أوروبية وثالث أكبر اقتصاد في العالم ولولا القيود التي وضعت عليها بعد خسارتها الحرب العالمية الثانية لكانت من أكبر الأقطاب العالمية ولاشك أن فلسفة القوة التي اعتمدها فريدرك هيغل تثبت اليوم مصداقيتها في عالم بات واضحاً أن ما يحكمه ويتحكم به قوة المعرفة وقوة التقانة وقوة الانتماء للأمة أو ما أطلق عليه هيغل الروح الوطنية.

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة