من العالم…عندما نفكِّر في كرة القدم

الملحق الثقافي:

تشغل كرة القدم الصغار والكبار، وهي اللعبة الأكثر شعبية وشغفاً في العالم ومع موسم المونديال ،كان الفيلسوف الاميركي سايمون كريتشلي ضيف نايجل واربورتون في حوار مطول نقتطف منه ما ترجمه عبدالله بن محمد ونشرته مجلة الدوحة في عددها الأخير
سايمون كريتشلي أستاذ الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك ومؤلِّف 29 كتاباً، بما في ذلك «بماذا نفكِّر عندما نفكِّر في كرة القدم»، «الانتحار»، «كيفية التوقف عن العيش والقلق»، و«كتاب الفلاسفة الأموات». أجرى معه مؤخراً نايجل واربورتون مقابلة مطوَّلة لتوضيح بعض النقاط حول كرة القدم وعلاقتنا باللعبة، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة بشأنها.
نايجل واربورتون: لقد كتبت للتّو كتاباً بعنوان :«بماذا نفكِّر عندما نفكِّر في كرة القدم». كيف بدأت فكرة الكتاب؟
– سيمون كريتشلي: اهتمامي بكرة القدم منذ طفولتي المُبكِّرة وأنا في الثانية من عمري حفَّز فكرتي عن اللعبة. وقد كتبت حوالي ثلاث أو أربع مقالات صحافية عن كرة القدم، خاصة حول نهائيات كأس العَالَم. لكن بعد ذلك كنت أُدَرِّس مع تايلور كارمان من كولومبيا. كنّا نحلِّل النصوص معاً وقمنا بتدريس هانز جورج غادامر. اخترنا فصل اللعب من كتاب «الحقيقة والطريقة». في تلك المرحلة أدركت أن هذا يمكن أن يتطوَّر حقاً بطرقٍ مثيرة للاهتمام، لأن غادامر كان رائعاً. كان يفكِّر في ظاهرة اللعب وما يجري أثناء اللعب. النقطة الأساسية هي أن ما يجري أثناء اللعب لا يمكن اختزاله في الصفات الذاتية أو الواقع الموضوعي. اللعب هو الظاهرة التي تنشأ في مكانٍ ما بين الأفراد والعَالَم الموضوعي. الفكرة الرئيسية في نظره هي أن اللعب لا يحدث في رؤوسنا. هناك فصل في كتابي بعنوان :«تجريد الذاتي في كرة القدم»، وقد حاولت فيه تقديم وصف لشيئين: أولاً تجربة اللعب عندما نلعب الكرة. هل اللعبة تدور في رأسنا أم خارجه؟ حسناً، من الواضح أن ذهننا منخرط في اللعبة، وملكاتنا المعرفية مهمَّة، لكن تجربة اللعب تكون خارج رأسك أثناء اللعب. وثانياً، عندما تكون متفرِّجاً تصبح اللعبة خارج رأسك. أي أنها تكون هناك بالقرب مما يحدث على أرض الملعب. اللعب بشكلٍ عام، وكرة القدم على وجه الخصوص، طرق رائعة لإبراز هذا البُعد من الخبرة بين الذاتي والموضوعي، وهذا العَالَم الذي يشكّله.
إنها ظاهرة مختلفة تماماً عندما يتفاعل الفردُ مع عالَمٍ خيالي، في لعبة خيالية، وحيث الرياضة مختلفة في الحقيقة عن معنى اللعب المعروف. مع الرياضة، تكون منخرطاً في نشاط وفق مجموعة من القواعد والمعايير، لكنك لا تتخيّل أي شيء بهذا المعنى. قد تتخيّل نفسك تقوم ببعض الحركات ولكنك لا تخلق عالَماً خيالياً.
– نعم ولا في نفس الوقت. على سبيل المثال، إذا كنت تفكِّر في خيال كلّ صبي وأنت تُعدّ تعليقاً عن كرة القدم في رأسك. إنها مسرحية خيالية. أو لعبة خيالية في علاقة بالرياضة القائمة، لكن ليس هذا ما يحدث في اللعبة. من الواضح أن اللعبة محكومة بالقوانين، وهذا أمرٌ أساسي. وهي منظمة بالقوانين السبعة عشر الخاصة بكرة القدم، ثمَّ العادات والأعراف والمُمارسات التي تتماشى مع ذلك. لكن هذا خيال. إنه خيال قانوني، وهو خيال نحترمه أثناء اللعب. إذا لم نقبل بالقوانين، فلن تكون هناك كرة قدم. لكن هذا لا يعني أن تلك القوانين صلبة. يمكن تجاوزها والالتفاف عليها. ومع ذلك، فهو خيال من نوعٍ آخر. أحد الأشياء التي تهمني حقاً في اللعب بشكلٍ عام، ولكن كرة القدم على وجه الخصوص، هي أنه عندما تشاهد مباراة مباشرةً، أي عندما تكون في الملعب، فهذا أمرٌ حقيقي، ولكنّه أيضاً أشبه ما يكون ببيئة افتراضية. على سبيل المثال، تحدَّثت في الكتاب عن الملاعب المُتطوِّرة، وكيف إذا كنت تشاهد المباراة من هناك، فأنت تشاهد لعبة واقعية، ولكن يبدو كما لو كنت تشاهد محاكاة كمبيوتر، لأنها حقيقية للغاية.
الأضواء الكاشفة أيضاً، تميل إلى المُبالغة في خضرة العشب.
-بالضبط- كرة القدم هي خيال حقيقي، ولكنّها تتمتع بجودةٍ فائقة الواقعية، وهو ما يجذبنا إليها. الألوان، على سبيل المثال، مهمَّة حقاً. لكن الفكرة الرئيسية هي أن اللعب ليس في رؤوسنا، ولا في رؤوس اللاعبين أو المُتفرِّجين.
لكرة القدم ميزة الارتجال التي لا توجد في الكثير من الرياضات، لذلك نصفها باللعبة الجميلة. إنها مختلفة عن التجديف أو العدو السريع، حيث يوجد مجال ضئيل نسبياً لتضع بصمتك الشخصية وتقوم بنوع من الحركة العبقرية. ولكن في لعبة جماعية، أنت تتفاعل مع جميع اللاعبين الآخرين على الميدان، وأحياناً تتفاعل مع الجمهور والحكم ومساعد الحكم، وحيث تكون الكرة في مجال نظرك. كلهم يؤثِّرون على حركاتك المُستقبلية. أعظم اللاعبين قادرون على هذا الارتجال الفائق، لأنهم يتخيّلون مجموعة محتملة من الحركات التي لا يمكن لأي شخصٍ آخر تصوُّرها. إنه لأمر محيِّر للعقل. كيف يفعل بعض اللاعبين تلك الحركات. يمكنهم ارتجال تمريرة أو مراوغة أو شيء من هذا القبيل ورمي الجميع بطريقة خاطئة. بالنسبة لي، أفهم لماذا يسميها الناس لعبة جميلة. الارتجال ميزتها الكلاسيكية: أنت تبتكره دون إعداد مسبق، ولا يوجد سيناريو ثابت تلتزم به.
– نعم. إنها مثل موسيقا الجاز بهذه الطريقة. فهي تحكمها سلسلة من القيود -كلمات، ونغمات، وسلسلة من القواعد التي تضبط الآلات واللحن- ولكن وسط كلّ ذلك يمكنك فكّ الارتباط والارتجال. الارتجال مرتبط بالفضاء. بمعنى ما، كلّ ما يفعله اللاعب العظيم هو فهم الفضاء والبحث عن مساحة، وبعد ذلك، عندما يجد تلك المساحة، يرتجل شيئاً ما. اللاعب الرائع هو اللاعب الذي يمكنه توفير مساحة من حوله. الآن، من الواضح أن هذا غير منطقي من الناحية الموضوعية، ولكن فيما يتعلّق بظواهر تجربة اللعبة، يمكن للاعب أن يصنع لنفسه فقاعة وسط الفضاء ويسمح لنفسه بارتجال شيء ما. الشيء الآخر هو التعاون بين اللاعبين.
لقد ذكرت الجانب الاجتماعي في وقتٍ مبكر جداً في كتابك. ليس الاجتماعي من حيث الصداقة الحميمة، ولكن التواصل غير اللفظي والتوقعات والطريقة التي يمكنك من خلالها توقّع وفهم الإشارات الدقيقة من اللاعبين الآخرين وما يقصدونه من خلالها.
– الفرق واضح بشكلٍ أكبر في الرياضات الأميركية مثل البيسبول وكرة القدم الأميركية، وبدرجةٍ أقلّ في كرة السلة، ولكن هناك عدد أقلّ من اللاعبين في الفريق الذين يخفتون تحت هيمنة لاعبين رئيسيين. وحيث إن كرة القدم هي تعاون بين الفريق بأكمله، ولكن غالباً ما يكون الفريق الجيد متكوِّناً من أربعة أو خمسة لاعبين يتحرَّكون معاً كنوع من المصفوفة المُتحرِّكة. وهذه المصفوفة المُتحرِّكة قادرة على فتح مساحة في الأماكن التي لا تتوفَّر على مساحة. عندما يلعب فريق ليفربول بشكلٍ جيّد مع هؤلاء اللاعبين الأربعة في المُقدِّمة، يكون الأمر على هذا النحو: مصفوفة صغيرة تفتح مساحة ضد وحدة دفاعية سدَّت كلّ منفذ لخلق مساحة. الجانب الخيالي من الكتاب يكمن في الإشارة إلى كرة القدم كشكلٍ من الاشتراكية، وأستشهد هنا بـ«بيل شانكلي» و«بريان كلوف»، وآخرين. هذه حقيقة، لكنني أعلم أنه من السخف أن أقولها، لأنه من الواضح أن كرة القدم لعبة فردية أيضاً، ويهيمن عليها المال.
المُثير للاهتمام، بالنسبة لي، هو تقديم هذا الادعاء وإظهاره في الجهة المُقابلة للرأسمالية التي تتحكَّم في كيفية التعامل مع اللاعبين في إطار اللعبة. يصبح اللاعبون أصولاً قيّمة جداً للأندية، ويتمُّ شراؤهم وبيعهم مثل الأسهم والسندات، وغالباً ما يكون ذلك دون أن يتحدَّثوا كثيراً عمّا يحدث لهم. إنهم ملك النادي، وهم أصول سائلة يتمُّ تحقيقها في نقاط رئيسية معيَّنة من قِبل الرأسماليين. ومع ذلك فهم ينخرطون في لعبة تحمل في الأساس علامات الدولة الاشتراكية، حيث يتعاون الناس لتحقيق هدف مشترك بدلاً من العمل فقط من أجل مصلحتهم الشخصية. هناك هذه الظاهرة الشيّقة التي ذكرتها لكم من قبل، حيث يتدرَّب اللاعبون الصغار على اللعبة في تنافس بشكلٍ مختلف. داخل أكاديميات كرة القدم، يتنافس اللاعبون في نفس الفريق ليصبحوا محترفين. في فريق يتكوَّن، على سبيل المثال، من خمسة عشر لاعباً، ربما اثنان فقط سيصبحان لاعبين ماهرين. وهم يعرفون ذلك. لذلك، هناك شعور بأن النظام التدريبي نفسه يغرس نوعاً من التنافسية غير الصحية، لأنه يجعل زملاءك في الفريق منافسيك. هم يحاولون التظاهر بأنهم متعاونون رائعون، ولكنهم يحاولون أيضاً الظهور والتميُّز، وبالتالي يستحقون الانتقال إلى المرحلة التالية في كرة القدم. بمعنى ما، هذا يعكس الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية في جوهر كرة القدم، كما تبيّنه جيداً في كتابك. هناك نوعٌ من الاشتراكية التعاونية في التدريب، مع نزعة فردية كامنة التي يمكن أن تعكس فكر آين راند، حيث البقاء للأقوى، وحيث لا يجب أن تنظر إلى الوراء.
– نعم، هذا صحيح بلا شك. ليس لديّ الكثير من الخبرة في ذلك، ولكن من خلال ما قرأت حول شروط الانضمام إلى أكاديميات كرة القدم والتدرُّج عبر الرتب، أعتقد أنه نشاط فردي للغاية. ربما يمكنك تبرير ذلك تحت مسميات البحث عن التميُّز على الطريقة الأرسطية، أو يمكنك التفكير فيها من خلال الموقف الغريب، حيث يكون ما تريده هو تكوين فريق، ولكنه فريق يقاتل فيه كلّ لاعب من أجل مكانته. ويمكن استبعاد مَنْ كان أداؤه سيئاً.
العدد 1122 – 29-11-2022

آخر الأخبار
أردوغان: وحدة سوريا أولوية لتركيا.. ورفع العقوبات يفتح أبواب التنمية والتعاون مفتي لبنان في دمشق.. انفتاح يؤسس لعلاقة جديدة بين بيروت ودمشق بريطانيا تُطلق مرحلة جديدة في العلاقات مع دمشق وتعلن عن دعم إنساني إضافي معلمو إدلب يحتجون و" التربية"  تطمئن وتؤكد استمرار صرف رواتبهم بالدولار دخل ونفقات الأسرة بمسح وطني شامل  حركة نشطة يشهدها مركز حدود نصيب زراعة الموز في طرطوس بين التحديات ومنافسة المستورد... فهل تستمر؟ النحاس لـ"الثورة": الهوية البصرية تعكس تطلعات السوريين برسم وطن الحرية  الجفاف والاحتلال الإسرائيلي يهددان الزراعة في جنوب سوريا أطفال مشردون ومدمنون وحوامل.. ظواهر صادمة في الشارع تهدّد أطفال سوريا صيانة عدد من آبار المياه بالقنيطرة  تركيا تشارك في إخماد حرائق ريف اللاذقية بطائرات وآليات   حفريات خطرة في مداخل سوق هال طفس  عون ينفي عبور مجموعات مسلّحة من سوريا ويؤكد التنسيق مع دمشق  طلاب التاسع يخوضون امتحان اللغة الفرنسية دون تعقيد أو غموض  إدلب على خارطة السياحة مجدداً.. تاريخ عريق وطبيعة تأسر الأنظار سلل غذائية للأسر العائدة والأكثر حاجة في حلب  سوريا تفتح أبوابها للاستثمار.. انطلاقة اقتصادية جديدة بدفع عربي ودولي  قوات الأمن والدفاع المدني بوجٍه نيران الغابات في قسطل معاف  قضية دولية تلاحق المخلوع بشار الأسد.. النيابة الفرنسية تطالب بتثبيت مذكرة توقيفه