الملحق الثقافي- سلام الفاضل:
يُعدّ الإهداء عادة شكلاً من أشكال العتبات النصية التي يلج عبرها القارئ إلى فحوى الكتاب الذي بين يديه، ويدير من خلاله مفتاح العبور إلى طيات روح كاتبه عبر ما يدبجه هذا الكاتب في إهدائه من عبارات رقيقة، أو كلمات مفعمة بالودّ والامتنان لشخوص بعينها، أو حالات وجدانية كان لها إسهامٌ فعّال في إنجاز مُؤلَّفه. وقد يقرأ أحدنا في الإهداءات، التي غالباً ما يبدأ بها الكتّاب مؤلفاتهم، أنماطاً تخرج قليلاً أو كثيراً عن المألوف الذي عُهد به في مثل هذه المقامات، كما أن مؤلفين كثراً قد يُفرغون عتباتهم النصية من أي إهداء يوجّهونه فتظل هذه الصفحات بيضاء تنتظر أن تُملأ… فمن أين يجيء الكتّاب بهذه الإهداءات؟ وهل ثمة عُرف بعينه توارثه الكتّاب من غير قصد في هذا الصدد؟ وما الغاية من الإهداء ولمن يُكتب؟ أسئلة كثيرة قد تتوارد إلى خواطرنا في هذا المضمار، وللرد عنها، أو تلمس شيء من الحقيقة في شأنها، توجّهنا بها إلى الناقد والإعلامي أحمد علي هلال الذي رأى بداية: «إن الإهداء بوصفه عتبة ستُضاف إلى مكونات النص الأدبي، وقد رأت فيه الدراسات النقدية الحديثة بؤرة سردية ستعني في حقيقتها صوتاً آخر للنص الأدبي، بصرف النظر عن جنسه ونوعه… وعلى ذلك فإن الإهداء بعيداً عن شخصنته سيشكل رسالة من الكاتب أو المؤلف إلى قارئ ما «قارئ ضمني»، سيتلقف كتابه ليقف عند ما يريده الكاتب…». ويتابع: «وهذا ما يتجلى عادة في الإهداءات الشخصية شكلاً، لكن مضمونها سيتعدى ذلك إلى ما يمكن وصفه بإهداء الكاتب إلى ذاته أولاً، وكثير من الكتاب يجهر بذلك وبعضهم الآخر يكتبه مواربة… كما أن الإهداء يشكّل تالياً كشفاً من الكاتب لمن يخصهم بكتابه مستبطناً فيه تلك الغاية القصوى من مؤلفه، أو المعنى الذي ينطوي عليه، بعيداً عن توسله – أي الكاتب – للمهدى إليهم بأن يقرؤوا هذا الكتاب بوصفه قطعة من روحه، ولوناً من ألوان تجربته الإبداعية…». وفي رؤيته التحليلية لمفهوم الإهداء عند الكاتب يستند هلال إلى مقاربات سيميائية كثيرة لعل أهمها: «إن الإهداء ما انفك يمثل تلك العتبة التي تعني كثافة المنتج في وعي الكاتب لينقله إلى الآخرين، وعلى ذلك ستصبح الإهداءات الشخصية عابرة ونافلة، فثمة إهداءات تتقصد بلاغة إضافية، وخلاصة لسياقات النص لتشكل بوصلة المعنى، ونقصد بها طبيعتها الفكرية الأبعد من أن تتعين بشخص بعينه؛ فالإهداء في هذا السياق أشبه بالدعوة إلى المغامرة السردية، أو الشعرية وسوى ذلك، لكنّها دعوة من صاحب التجربة الذي يعنيه أن يقود قارئه إلى وظيفة انتباهية لما يريده، ولما ذهب في إثره في إنتاجه الإبداعي، إذ إن الإهداء هنا سيمثل غواية مستحبة من الكاتب لقرّائه الذين سيعثرون إن جاء الإهداء بصيغة الأسئلة على أجوبتهم الممكنة…». ويردف: «وكثيراً ما يفارق الكاتب عمومية الإهداء الشخصي إلى إهداء مختلف ينطلق فيه من ذاته وإلى ذاته بوصفها الآخرين، وهذا ما سيعني أن الإهداء ينبغي أن يُنظر إليه بشيء من التعدد وليس الاختزال، لأنه يفتح في الأفق دلالات كثيرة، فهو عقد بين الكاتب وقرائه من الأقرب إلى الأبعد، وبين أزمنته وأمكنته وصولاً إلى لغته…». ولما وصلت بعض الإهداءات بلغتها السردية إلى مصاف الرسائل الأدبية لما حوته من جزالة ألفاظ، ومعان برّاقة، ومضمون يؤكد على أدبيتها العالية، فإنها غدت، كما يوضح هلال: «ذات نزوع أدبي صرف، ولعلها أصبحت في التأويل قطعة أدبية…». ليؤكد في ختام كلامه: «إن الإهداء يظل صورة عما حلم به الكاتب، لينقله ببلاغة محسوبة إلى قارئه، وذلك ما يعني خلاصة زمن ثقافي يذهب الكتّاب إلى تنضيد رؤيتهم به؛ فالإهداء متعدد المستويات والقراءات ولكلّ قراءة دلالة ولكلّ ما يتعلق به سياق». وهكذا يمكننا أن نرى أن الإهداء ولو اختصر به الكاتب أسماء بعينها، أو حالات وجدانية خاصة، إلا أنه لا يقف، في معناه الأشمل والأوسع، عند هذه الشخوص أو الحالات، بل يتعداها ليبدأ من إهداء الكاتب مُؤلَّفه لنفسه، ولا يتوقف عند إهدائه لقارئ بعينه.
العدد 1123 – 6-12-2022