الملحق الثقافي- لمى حمدان:
بين براثن روتين مقيت يطبق على كل ناحية وكل لحظة في حياتنا نصارع لنخرج منه دون جدوى.. تأتيك حروف رواية تنتشلك من هذا الواقع المرير بظروفه التعيسة.. وتهيم بك مشاعراً وحباً وعواطف كادت أن تنطفأ.. لتغوص في عالم يأخذك إليه لتجد نفسك هائماً بين كلماتها متعطشاً للشعور والأثر الذي تركته في داخلك.. وهذا ما كان بعد قراءة رواية «قمر موسى» للكاتبة غنوة فضة.. التي استطاعت بسلاسة جملها وعباراتها البليغة المعنى والوصف الشيق لأحداث روايتها أن تأخذنا إلى عمق روايتها وتشعل لهيب الشوق لعيش أحداث تشبه أحداث قصتها..
إذ تصّور لنا الكاتبة في روايتها قصة تسرد أحداثها بطلتها قمر الزمان الفتاة ذات السبع والعشرين ربيعاً.. تعيش حياة هانئة سعيدة في كنف عائلة مثقفة من الطبقة الراقية.. لأب ضليع في الأدب العربي الذي شغفها بحب الأدب والأدباء منذ نعومة أظفارها.. وأم طبيبة نفسية أورثتها جمالاً لا يضاهى.. أحاطاها بكل ما تحتاجه من حب وعطف وقوة وغرسوا فيها كل مشاعر الحب والشعور بألم الغير فضلاً عن حب الأدب والموسيقا اللذين أصبحا شغفها الدائم.. لكن كل ذلك لم يكن ليسد حاجة في نفسها كانت قمر الزمان تجهلها وتتوق إليها قبل أن تعرف ماهي.. حتى كان لقاؤها بالشاب موسى المقعد نتيجة حادث أليم جعله أسيراً لكرسي مدولب،ويقبع في عزلة مريرة إلى أن كان لقاؤه بقمر الزمان التي جمعته بها المصادفة والقدر.. لتكون السبب في خروجه من عزلته ولتنشأ بينهما قصة حب فاقت الخيال بعيدة عن كل الماديات.. الحب الذي تعشق فيه الروح للروح.
قمر أحبت موسى الفتى الثلاثيني المقعد الفقير إلا من كنز بين يديه يتمثل بقدرته الفائقة على الإبداع في الرسم وتصوير لوحات فنية فاقت بجمالها إبداعات الفنانين العالميين.. هذا الحب لم يستطع أن يقف في وجهه سوى عنجهية والديّ قمر التي أظهرت أن كل ما تعلمته منهما قمر من مثل وقيم إنسانية كان زائفاً عندما تعلق الأمر بابنتهم الوحيدة.. ليظهر مدى تشبثهم بعادات الطبقة المسماة الراقية التي لاتسمح بعلاقة كهذه بين فتاتهم الوحيدة ذات العائلة الراقية مع شاب من وسط اجتماعي فقير ناهيك بأنه ذو إعاقة جسدية..
وبرغم محاولات أهل قمر الزمان لثنيها عن المتابعة في علاقة اعتبرها والداها بأنها لن تجلب لها سوى البؤس والشقاء.. إلا أنها أبت إلا أن تستمر مع موسى في حالة الحب والهيام الروحي التي تربطها به.. مما استدعى من والدها للتدخل وإهانة الشاب في وسط بيته وأمام والدته ويصرخ فيه متهماً إياه بأنه سبب شقاء ابنته الوحيدة ونعته بالمقعد ذي الإعاقة..
الأمر الذي سبب جرحاً لموسى اضطره للسفر عند أخيه الأكبر في السويد للمعالجة.. وذلك من دون علم من قمر التي ضاقت عليها الدنيا بعد ما كانت ترى النور والحياة من خلال حبها لموسى ووجوده.. لتخرج عن مسار الحياة بسيارتها وتصبح مقعدة بسبب حادث أليم اعتبرته عقاباً لأهلها على إهانتهم لإعاقة إنسان لا ذنب له في هذه الدنيا سوى أنه أحب ابنتهم من الطبقة المسماةالراقية..
وبعد عامين من المعاناة ونكران الذات والحياة ووجع الفراق والبعد عن الحبيب وانطفاء شمعة الروح داخل كيان قمر الزمان.. وبعد احتواء والديها لها اللذين أغدقا عليها بحبهما الأبوي الصادق.. عادت قمر لحياتها الطبيعة وتأقلمت مع كرسيّها المدولب وانطلقت للحياة من جديد لتباشر بتعليم الأطفال الأيتام للموسيقا التي طالما أحبتها بالعزف على البيانو.. ولتجد ضالتها في هؤلاء الأطفال وملجأً من كآبتها من دون أن تستطيع الأيام أن تمحو حب موسى من قلبها..
وأخيراً تنقلب الأحداث فجأة لنرى موسى واقفاً على قدميه أمام باب منزل قمر الزمان بقامته الجميلة الواثقة.. موسى الذي عاد من أجل قمر لينتشلها من كرسيّها المدولب، ويطيرا معاً إلى عالم حلما به سوية مع مباركة الوالدين..
وهكذا تكون الكاتبة قد نقلتنا بين حنايا كلماتها ووصفها الدقيق لكل مرحلة من مراحل تصاعد أحداث روايتها وتزرع فينا حباً وشغفاً بأن نعيش نفس أحداث هذه القصة ونرغب في أن نكون قمر التي تنتظر موسى خاصتها ليأخذها إلى عالم آسر من الحب بعيداً عن المظاهر والماديات.. عالم تسكنه الإنسانية بكل معانيها مشبع بالحب الروحي الصادق والوفي..
العدد 1124 – 13-12-2022