من الدروس الجميلة التي كنا نقف عندها مطولاً في الفلسفة، درس الذاكرة وأمراضها، ومازالت بقايا صوره حاضرة ماثلة بكل قوة، تزداد غنى وتنوعاً بما أضافه المأثور الشعبي إلى المخزون حول نعمة النسيان، وثمة من يرى أن الإنسان سمي كذلك من ( النسيان) ويتوجون الأقوال بترديد عبارات جميلة وصادقة حيناً مثل: النسيان نعمة، بكل تأكيد نعمة في أحايين كثيرة، لكنه ليس كذلك في العديدد من المطارح لاسيما عندما يكون تناسياً مقصوداً، يصل حد التجاهل، وبغض النظر عن أمراض الذاكرة التي تنشأ نتيجة عوامل مرضية حقيقية ذات جذور طبية، فإننا معنيون اليوم أكثر من أي وقت مضى بما يسمى: التناسي، التجاهل، الغرور، الذي يصيب البعض ويجعلهم ينسون ويتناسون كل ما عبروه من مخاضات لاندري مدى نظافتها حتى وصلوا إلى فيء ليس نظيفاً جعلهم ينسون أو يتناسون، أو بالأحرى لايرون، ألا يقولون: إن المال يعمي، الموقع لغير مستحقه أيضاً يعمي.
في حياتنا اليومية ومفرداتها التي تبدو خريطة مثقلة بالجراح، تعمل الذاكرة بطرد الواقع الأليم وتذهب بنا إلى أيام تستعيدها لعلها تكون معادلاً ما يحقق توازناً للحظات نعيشها، تفر بي الذاكرة إلى الوديان، إلى النار التي تتقد في ( الأثفية ) ونحن متحلقون حولها نتنسم روائح البرغل وشوربة العدس، ونرى طناجر الماء تسخن، نظن أنها لنا، لنفاجأ بعدها أن الأولويات للدواب المربوطة في ( الحظيرة ) نعلن احتجاجنا، ويكون الصوت المدافع: هل نسيتم حليبها، لبنها، سمنها، هل نسيتم أنكم من وراء تربيتها وبيعها تحصلون على أسباب الحياة.. هل وهل ..؟
نسيت كل شيء عن أمس واليوم، وربما الغد، وبعده، ولكن أعتقد أن الغد هو الأفضل مهما ضاقت بنا السبل، لكن لابد أن أخبركم: إني نسيت وجه البراري، ونسيت وجه القرية والأحبة والأهل، نسيت دروب الألم والأمل، لم يعد في القلب في هذا السواد إلا أن أردد ما غنته فيروز من كلمات الأخوين رحباني:
( رجعت في المساء كالقمر المهاجر
حقولك السماء حصانك البيادر
أنا نسيت وجهي تركته يسافر
سافرت البحار لم تأخذ السفينة
وأنت كالنهار تشرق في المدينة
والريح تبكي في الساحة الحزينة
أعرف يا حبيبي أنك ظل مائل
وأن أيامك لا تقيم وكالمدى تبعد ثم تبعد
أعرف يا حبيبي وتحت سقف الليل والمطر
وبحضور الخوف والأسماء والعناصر
وكل ما لا اسم له في الكون
أعلن حبي لك واتحادي بحزن عينيك
وأرض الزهر في بلادي وينزل المساء).
ولكني لم أنسَ أننا صناع الأمل، والحياة تبدأ غداً بوقع أقدام أطفالنا، ولن أنسى أن أسافر خيالاً إن لم يتح على أرض الواقع، فهل أسترد وجهي ممن نسي وجهه؟