الثورة – أديب مخزوم:
مرت منذ أيام الذكرى السنوية 44 لرحيل الفنان السوري الكبير لؤي كيالي، الذي تحقق لوحاته عاماً بعد آخر، أرقاماً قياسية في بورصة الفن التشكيلي، ويذكر أن محرك البحث ” غوغل ” قد احتفى به منذ سنوات على نطاق عالمي واسع.
هو الذي تشكلت في لوحاته هموم لا تحصى وأوجاع لا تعد، وقد تنقلت موضوعات لوحاته بين اللقطات البائسة للأشخاص، ومشاهد جمالية ملتقطة لمعلولا، والصيادين والمراكب. بالإضافة إلى موضوعات الزهور. كأنه من خلال تصوير الزهور كان يريد إعطاء المشاهد فسحة أمل تنشله، ولو للحظات من دوامة القلق والمعاناة.
هكذا تعامل مع موضوع الورود والزهور، وكأنه عنصر مناقض لحالات البؤس والعذاب والتشرد، فتدرج من التصوير المباشر للإنسان المهمل (ماسح الأحذية على سبيل المثال) الذي رسمه مرات عديدة، وبرؤى مختلفة، لينقل إلينا معاناة البؤساء قبل أي شيء آخر، حيث أدخلنا عبر لوحاته في جوهر المعاناة الإنسانية عبر تركيزه على الناس البسطاء، ولا سيما الأطفال الذين يعيشون مأساة كاملة، الشيء الذي يجعل هذه المجموعة من لوحاته هي الأكثر التصاقاً مع ذاته والأكثر بلاغة في التعبير عن أحلام الطفولة الضائعة أو الهاربة.
ولقد صدر أكثر من كتاب عن مسيرته الفنية والحياتية، من ضمنها الكتاب الأنيق الذي كتب نصه التحليلي المطوَّل الناقد التشكيلي الكبير الراحل صلاح الدين محمد، وصدر خلال عام 1999 في سياق مطبوعات الفن للجميع، التي أعدها سعد الله مقصود.
والكتاب الذي أصدره الفنان الرائد الراحل ممدوح قشلان خلال عام 1974 ضمن سلسلة مطبوعات نقابة الفنون الجميلة.
واللوحات المنشورة فيهما تشكل (إضافة إلى النصوص التحليلية) مرجعاً أساسياً للدارسين والمهتمين، بعد انتشار العديد من اللوحات المزورة والمنسوبة له، والتي يبلغ عددها بالمئات، ويسهل كشف زيفها، وسبق وكتبت عنها عدة مقالات وتحقيقات.
فاللوحات المتنوعة التي قدمها لؤي كيالي في رحلة حياته القصيرة (1934- 1978) تبرز كرؤى بصرية مشبعة بالحزن القادم من تأثيرات الواقع الحياتي، حيث كان يرسم المعاناة الإنسانية في لوحات الطفولة والوجوه والأمومة، وربما يعود هذا التأثير المباشر أو غير المباشر للحياة المضطربة التي عاشها، والتي تركت أثرها الواضح على شخوص لوحاته المشبعة بالحزن والتوتر والتمزق الداخلي، وهكذا تطل لوحاته كحالة وجدانية تعكس الصدى الداخلي على وجوه الأمهات والموضوعات الملتقطة من حركة الناس البسطاء في الشوارع والساحات والأماكن العامة.
ومن الناحية التقنية كان لؤي يبتعد عن الهواجس اللونية الغنائية والصريحة عبر بحثه الدائم عن أجواء لونية متقشفة، تزيد من حدة التعبير المأساوي في فراغ اللوحة، فيبحث عن خلفية لونية أحادية تتداخل مع الأشكال الإنسانية والمواضيع الأخرى، وأكثر ما يميز لوحاته هو طريقته في إيجاد هذه العلاقة المتداخلة بين خلفية اللوحة والأشكال المرسومة بحيث تبدو الخلفية أو أرضية اللوحة ظاهرة عبر الأشكال المجسدة بأسلوب خاص يرتكز على خطة خطية لا لونية حيث تبدو خطوطه منسابة طلاقة وحرية وحيوية.
ولقد كان لؤي يقدم اختباراته وخطوطه المرنة فيبحث في تقنية تأسيس أرضية اللوحة، ثم يعمل على تجسيد الأشكال الإنسانية التي تنقل المعاناة الحياتية، مع بعض الاستثناءات التي نجدها في لوحات الزهور ومعلولا وغير ذلك من الموضوعات التي تقترب أكثر من الشاعرية بقدر ما تبتعد عن السوداوية.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إن لؤي كان يرفض طريقة الرسم بلمسات لونية مباشرة وعفوية وغنائية على عكس أكثرية فناني جيله والجيل الذي جاء من بعده، وكان يركز لإظهار قدرته في السيطرة على خطوط متزايدة الحساسية والرشاقة والليونة، أي أنه كان فنان خط بامتياز وليس فنان لون.
وبالرغم من تناوله لعناصر مختلفة، بقيت مواضيع البؤساء هي الأقرب إلى نفسه، والأكثر تعبيراً عن حالته النفسية وحياته المتوترة، شأنه في ذلك شأن فان غوغ، فحياتهما المضطربة تركت أثرها الواضح على شخوص لوحاتهما المشبعة بالحزن والتوتر والتمزق الداخلي، وفاجعة رحيل لؤي كيالي بطريقة مأساوية، في نهاية عام 1978، متأثراً بحروق أصابته وهو في سريره، أعادت إلى الأذهان فاجعة رحيل فان غوغ ، بإطلاق النار على نفسه إثر نوبة نفسية حادة، بعد أن كتب إلى أخيه “ثيو” يقول، لن ينتهي الشقاء.