ابتعد عن مصادر الإزعاج والقلق، قالها الطبيب واثقاً من نفسه، وهو يقدّم النصيحة لذلك الرجل الأربعيني، الذي يعاني من تشنجات في الأعصاب، واضطرابات في المعدة والكولون، على اعتبار أن ما قاله هو القسم الأكبر من العلاج.
هنا تذكر الرجل بيتاً من الشعر يقول: لا تأسفنّ على الدنيا وما فيها.. فخير ما فيها ترك ما فيها.
فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ صفراء، لأنه في قرارة نفسه، يدرك صحة ما قاله الطبيب، لكنه يجهل الوسيلة في طرد القلق، والاضطراب، بعيداً عن عالمه المثقل بالهموم، والوجع، والمنغصات، وأقلّها تكفي ليكون واحداً من أبرز مراجعي العيادة!.
الدعوة لترك القلق، بقابلها بالضرورة لفت النظر، إلى الجانب المملوء من الكأس، والتعامل مع الواقع بما تقتضيه الضرورة، لجذب الأشياء الجميلة لحياتنا، فالذهب والماس تحتاج الكثير من الجهد والصبر، والبحث، في جبالٍ من التراب، والصخور لتنال قليله، وحصولك على لذيذ العسل يتطلب تجربة المعاناة مع إبر النحل.
هذه الحقائق يعرفها الجميع، لكننا نعيش في رمنٍ ، لا وجود فيه لأنصاف الحلول، والتصريح بما سبق، حديثٌ “ارستقراطي”، يقوله المرتاحون، وهم قلّةٌ، وسط جمهورٍ واسعٍ، يصارعون بكل ما لديهم للحصول على لقمةٍ حلال، يأكلونها مع أولادهم، وعن مصادر متعددة للدخل، تكفيهم سؤال الناس، وتسدّ ديونهم، والتزاماتهم التي فاقت طاقات الاحتمال، خاصة أن الكثيرين منهم شطب من حياته وذاكرته مفردات عديدة، غابت عن تفاصيل حياتهم، وموائدهم، وباتوا عاجزين عن توفيرها، في ظل جنون الأسعار، وجشع الناس، وندرة المواد، وشحّ الموارد، وكثرة الطلبات الضرورية، لاستمرارية الحياة.
كيف لا يقلق الآباء والأهل على مستقبل أولادهم؟! وكيف يتجنبون التشنج والاضطراب العصبي، وجلّهم لا يستطيع تأمين أبسط متطلبات الحياة، أو توفير رسوم التسجيل في الجامعات، لأبنائهم، ولا مستلزمات استكمال الدراسة، كشراء الكتب والمحاضرات، والملخصات التي باتت ضرورة يركز عليها الأساتذة، هذا غير الحديث عن جلسات ما قبل الامتحانات، التي أصبحت أمراً واقعاً، وشرطاً للوصول إلى النجاح، وصارت وسيلة امتهنها تجار العلم، لزيادة دخولهم على حساب العلم والتعليم.. وغير ذلك كثير؟.
كيف يبعد الأهل حالات الاضطراب والوالد يعلم أن ما لديه لا يكفي الأولاد مصروفاً للتنقل وشراء الملابس وغيرها، من اللوازم الحياتية، وما إلى ذلك؟!.
هنا تعالوا نحاول فتح مجال للعقل والمحاكمة ونسأل: هل يحلّ القلق والاضطراب النفسي أي جزء من مشكلات حياتنا، أم أنه يزيدنا مرضاً وألماً؟
أليس من الأفضل أن نُعمل العقل في البحث عن حلولٍ تساعدنا على الخروج مما نحن فيه؟
حلولٍ تتشابك فيها القلوب وتتراصف الأيدي، لنرفع عن كاهلنا وكاهل بلدنا مصيبة تداعيات الحصار، والعوز، والحاجة.
حلول تساعد في دوران عجلة الإنتاج، والتفكير بتوفر البدائل المحلية، من منتجات الأرض وخيرات البلد، حلول توقف سرعات تجار الأزمات، والفاسدين، والمفسدين في الأرض، حلول ترفع فيها الخبرات والكفاءات وتتقدم المصلحة الوطنية على كل اعتبار، حلول تنطلق من المعطيات الواقعية، وليس من خيال أصحاب المصالح الضيقة، والشعارات الفارغة التي لا تنفع، ولا تسد حاجة محتاج.
هنا عندما تتوحد الرؤى، يتضح الهدف، وتتفاعل المبادرات، فنحظى بشرف المحاولة، إن لم نقل تجاوز المستحيل.
عندها يصبح الصوت أقوى، والنتائج محسوبة، فتعلو كلمة البناء على كلمات التخريب، ويصير المستفيد هو الوطن.
لسنا الوحيدين على هذا الكوكب نعاني ما نعاني، لكننا ربما نكون الأكثر قلقاً، والأقل فعلاً وإنجازاً.
والسبب، أن أكثرنا، فقد الثقة في إمكانية الوصول لحلٍ يخرجنا من عنق الزجاجة، فأغلق ذهنه عن التفكير الإيجابي، وهو يرى من حوله يصارعون طواحين الهواء، ويتسابقون للخلاص الفردي، ولو على مستويات الدوائر الضيقة المحيطة بهم، وهذا بحد ذاته مسبب منطقي للقلق، والإحباط، فما تربى عليه الناس يختلف كثيراً عن المفرزات، والأسماء المتداولة لمنظومة القيم المجتمعية، فما كان بالأمس عيباً، وحراماً، صار لدى معظم الجيل وجهة نظر، فيها نقاش وكلام، وسادت مصطلحات مثل “دبّر راسك .. حلال ع الشاطر.. حط راسك بين الروس.. خليك كيوت.. شوف الناس وين وأنت وين.. والقائمة تطول”.
أمام ما تقدم، باتت خطوات التفاؤل صعبة للغاية، لكنها ليست مستحيلة، فقط فتش قلبياً في دفاتر التاريخ القريب، لتجد أن امتحانات أقسى وأشد عصفت بمن قبلنا، وتجاوزوها بالحكمة والعقل، فنجحوا في تغيير دفة الريح لصالح حياتهم، وعدّلوا بوصلة الظروف بما يحسن أحوالهم، وتعاونوا على مصاعب الحياة، فحصدوا نتائج أفضل.
إنها مبارزة عضّ الأصابع، فمن يملك صبراً يفوز.. والشجاعة صبر ساعة، ومواجهة المصاعب بالعقل أفضل بكثير من الاستسلام والقبول السلبي بها.
قبل ذلك لنقرأ ما نحن فيه بعين الحكيم، ولنبدأ بتحليل المشكلات ونفكر بتجاوزها، ولا ننتظر من يحلّها لنا، فنحن أدرى بأحوالنا، وأوجاعنا وما يقدمونه لنا من حلولٍ جاهزة ومعلبة، ومسبقة الصنع، ليس بالضرورة هو الحل، فربما يصلح لديهم ولا يصلح عندنا..
فتجاوز الظلام لا يكون بلعن العتمة، وتجاوز الجوع لا يكون بطبخ البحص، بل بالسعي الجاد، والبحث عن بدائل ممكنة.. فما الذي جعل ريفنا المعطاء يعاني اليوم من نقص الرغيف، وأرضه الطيبة كانت توزع الخير على امتداد الوطن كله! كيف تحوّل تنور الضيعة لذكرى، وصور منسية، وقد كانت أمهاتنا تسابق الفجر لإعداد لذيذ الخبز.
لماذا صار أهلنا في الريف الغني ينتظرون على قارعة الطريق الشاحنات المحملة بالخضار والقادمة من أسواق المدينة؟ لماذا ابتلينا بهذا الكم من الكسل والترهل؟ هل هي لعبة الحضارة، أم ضريبة التحضّر؟! أم أن شياطين العولمة وثقافة الاستهلاك من أوصلتنا لهذا الكسل والموت البطيء؟!.
الأسئلة كثيرة والكثير منا يعلم الجواب.. فلا قلق مع الحياة.. ولا حياة مع القلق فلنبعد هذا المرض عن أيامنا ولنشغل رؤوسنا بالتفكير الإيجابي، فبعد كل نفقٍ مظلمٍ ثمة نورٌ يراه أصحاب الإرادة والعقول السليمة.. ممن تركوا القلق جانباً فاستحقوا الحياة.
بشار الحجلي