الملحق الثقافي- ل – ك:
ــ (النقد التسويقي) لعل مَنْ يطرح هذا العنوان قد أجاد التعبير عن المحتوى الذي يسأل عنه، واختصر مضمون حالة كاملة في مزجه كلمتين من مجالين مختلفين لكل منهما آفاقه، ودوائره، وعلمه، وتخصصاته، وحتى أصوله، ومناهجه، ومدارسه.. فالنقد علم يُدرَّس في الجامعات، واختصاص في الدراسات العليا، وكذلك هو التسويق. لكن أوضاعاً جديدة باتت تظهر على الساحة في نقدٍ هو لتسويق المحتوى.. ولابأس في ذلك إذا كان المحتوى جيداً، ويستحق نقداً إيجابياً يكون تسويقياً في الوقت ذاته، بل إنه مطلوب، ومرغوب. ولكن على الطرف المقابل ماذا بشأن محتوى قد لا تنطبق عليه المعايير الصحيحة ليُصنف في خانة ما يستحق استقطاب الأضواء نحوه، كمن يمتدح أحداً بما ليس فيه؟
وهذا التسويق لما لا يستحق والذي يأتي من نافذة النقد هو أشبه ما يكون بالتسليع الذي فيه: خذ، وهات.. وهو يصلح بالتالي لكل المجالات التي تتحقق من ورائها المصالح، والغايات، ومنها الأدب، والفن.. بل هما على رأس القائمة. فالخطاب النقدي، أو القراءة النقدية، أو الأحكام النقدية، كلها مسميات لهدف واحد هو تناول المنتج الأدبي، أو الفني، أو غيرهما بالدرس، والتحليل، واكتشاف مواطن الإبداع، والتميز فيه، وهي الدعاية له بآنٍ معاً ولاسيما إذا أتى ذلك من صاحب اسم معروف في هذا المجال، وعند هذه النقطة أتوقف قليلاً لأقول إن الميزان سيختل لاشك إذا ما زُج بالاسم المعروف في نقدٍ ليس من النقد في شيء، وإنما هي المجاملة، والمحاباة.
لكن الدعاية الآن وقد استطالت أذرعها الأخطبوطية من خلال الشبكة العنكبوتية أصبحت قادرة على أن تستقطب إليها كل قراءات النقد، وكما هو شأنها مع الإعلان في جذب المستهلك نحو المنتج. ومن المفارقات أن يكون من النقد ما هو من السلب لا من الإيجاب، ولو كان فيه القدح لا المدح، كنوع آخر من التسويق السلبي لغاية لفت الأنظار على مبدأ: كل ممنوع مرغوب، وبما يثير الفضول لدى الناس لأن يطلعوا، ويعرفوا أكثر.. وفي هذه الحال لا يعود مهماً الانطباع العام بقدر ما تكون العملية التسويقية قد حققت غايتها بنجاح.
وإذا كان النقد في جوهره إثراءً للمحتوى بإلقاء الضوء على مكامن التميّز، والإبداع فيه حسب معايير الإبداع المتعارف عليها، والتميّز، من أساليب فنية، ومضامين غنية، فإن الفن، والأدب معاً أحوج ما يكونان له للارتقاء بمحتواهما، والكشف عما هو لصالحهما صعوداً بهما.. لكن من النقد ما هو على النقيض من ذلك عندما لا يلتزم بهذه المعايير، ويكتفي بإطلاق عبارات الامتداح، والإعجاب كمن يُلمّع قطعة معدن صدئة ليضعها بين قطع من الذهب.
ها هو التسويق يصبح الصناعة الأكثر رواجاً من خلال الدعاية، والإعلان، وهما تفعلان فعلهما في التأثير على ذائقة المتلقي، وهذا بدوره يضع النقد الذي يخرج لغاية التسويق موضع شكٍ، وسؤالٍ حول مصداقيته، وديمومته، ولاسيما إذا ما كان المحتوى من حيث القيمة الفنية لا يرتقي فعلاً إلى النقد الذي طاله بالإعجاب، والمديح.
ولما كان النقد الذي يهدف إلى تسويق المنتج الأدبي، أو الفني يلقى صداه الإيجابي لدى صاحب المنتج فإن ذلك يغذي حالة الغرور، ويعزز شهوة الشهرة لديه، كما يعزز مسيرته في الاتجاه الخاطئ، ليصبح لدينا في المحصلة كماً لا يستهان به من الانتاج الرديء يغطي الساحة ليطغى على الأعمال الجيدة، والمتميزة، والتي لم تلق نصيبها الذي تستحقه من النقد الموضوعي، والعلمي الحيادي دون انحياز، والذي لا يضع في حسابه المجاملات الرخيصة، والمغالطات الرديئة.
التسويق يزدهر بما تمده به شبكات التواصل من امتداد، وانتشار يصل إلى شريحة عريضة لا يستهان بها من الجمهور، إلا أن النقد غير الموضوعي الذي يرافقه لغاية الدعاية، والترويج يجعل النقد ينزل عن عرشه، ويفقد قيمته، وتأثيره، ويضعف دوره الحقيقي الذي وجد لأجله وهدفه الارتقاء بالفنون عموماً، والنهوض بها إلى مستوى أعلى، وأرقى، وحمايتها من الزوال، لا الانحدار بها إلى الرداءة، والابتذال، وتدني الثقافة بما يهدد سلامة المنتج الأدبي، والفني ذاته. نقد يُفقر، ولا يثري.. ويخلق بدوره فجوة بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون الأمر عليه من حيث المهنية المتعارف عليها، والأسس العلمية للنقد، وإنماء الثقافة، لنحصد بالتالي جمهوراً يفتقر إلى الحس الجمالي، والمعرفة، والتذوق الفني الرفيع.
والكارثة أكبر عندما يأتي النقد من غير أهله، ويجد له منبراً لتسويق نفسه، وهو يهبط عن عمد بالقيمة الفنية، والفكرية لدى الجمهور، ويقوم بتغيير المفاهيم عندما لا يطلق الأحكام الصحيحة، ليغيب دور الإبداع، والابتكار في زحمة السوق، وهما في أساسهما خلق من عدم، وأساس في بناء.
العدد 1126 – 3-1-2023