ثورة اون لاين- بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم
لم تغب صورة تدفق السوريين إلى صناديق الاقتراع عن الذهن طوال ساعات فاصلة بين تاريخين، وعند منعطف يكاد يسدل الستار مع ما مضى، ويبحث في الأفق عن سيل متدفق من الأحداث والتطورات التي تجاوزت قطوعاً ومفازات أضحت في أغلبيتها بلغة الماضي، وإن حاولت أو استماتت للاستمرار ولو بلغة غير لغتها.
ويبدو أن تلك الصورة لن تفعل ذلك الآن ولا في المستقبل، بدليل أنها حجزت موقعها ليس في ذاكرة السوريين الفردية والجمعية فحسب، بل في صفحات الحدث البشري على امتداد وجودها، وهي تحاكي في مفرداتها ما بات اليوم يطلق عليه اصطلاحاً الحدث الصادم لجهة ما أفرزه من مفاجآت لم يستطع حتى الطموح أن يجاريها في بعض تفاصيلها على الأقل.
فقد رجعت سورية إلى عهد السوريين بها، وعاد السوريون إلى لحظة التعبير الحقيقي عن سوريتهم, التي مرت بالأمس في شريط متكرر من الصور, تسابقت المدن والقرى والبلدات السورية إلى حجز مواقع متقدمة داخل تلك المشاهد، وهي تردد عنواناً وحيداً كاد يختصر كل شيء، ليقول هذه سورية، رغم استحالة الاختصار.
المسألة ليست شاعرية ولا هي محاكاة رومانسية لعواطف وأحاسيس وتعابير السوريين بقدر ما ترسم خطوط عرض وطول على امتداد الأرض السورية.. تعيد إلى الخريطة الجغرافية إحداثياتها الإنسانية والحضارية، وإلى امتداداتها وتوابعها الاهتزازية هويتها السورية التي ما تخلت يوماً عنها، ولا قَبِل الوجدان السوري للحظة أن تكون خارجها.
فالأسئلة المؤجلة منذ سنوات ثلاث ونيف، والأسئلة المحرمة والصعبة والمستحيلة كلها وجدت ضالتها أمس الأول في سياق المشاهد الممتدة على الأرض السورية، وأجمعت في المحصلة النهائية على تقديم لوحة وطن، كللته رغبة السوريين في التعبير عن الذات ووضع حد لألسنة تجاوزت حدودها، ونطقت بما لم تخوّل به يوماً، وتحدثت بما هو غير مسموح النطق به، وحاولت مراراً وتكراراً أن تصادر إرادة السوريين، فكانت الإجابة الشافية بأن السوريين تكلموا كما لم يتكلموا يوماً، أو هم أطلقوا ما تم تأجيله لأشهر وربما لسنوات.
لم نعتد أن نبني على ما يقوله الآخرون، ولا أن نقارب ردات فعلهم، ولسنا بوارد التعويل على ذلك الآن ولا في المستقبل، لكن ثمة ما يستوقف في ردات الفعل تلك، وحتى الصامتة منها، بل فيها ما يتفوق على الكثير من الترهات والمواقف الاجترارية التي يسوقها خطاب غربي مستنسخ في مفرداته ومصطلحاته، وأحياناً فيما ينتجه من سرد مغلوط وفضفاض للمشهد.
فالصمت عما جرى بلغة الإعلام الغربي لم يكن تجاهلاً عفوياً أو عبثياً، ولا هو في نطاق عدم الاهتمام أو عدم الاكتراث، بقدر ما كان تعبيراً عن حالة إفلاس في التعاطي مع مشهد عجزت كل التعابير الإعلامية عن اقتناص مفردة واحدة تصلح للمحاججة فيه، أما في لغة السياسة، فكان أكثر وضوحاً في التعبير عن حالة من الحنق والغيظ وربما القهر السياسي نتيجة العجز في التعبير، بدليل أن كل ما تمكن منه ساسة الغرب استند إلى ما سبق أن اجتروا به سابقاً.
على هذه القاعدة كان الصمت أكثر تصريحاً من الموقف ذاته، وكان التجاهل أكثر ترجمة لحالة الاندهاش من صورة الإدهاش السوري، التي تجلت في حشود الناخبين في الخارج والداخل، وما فاتها في التقاطه من عناوين الخارج جاءت التفاصيل الإضافية التي أطلقها السوريون في مختلف المحافظات كافية لتكون صورة الصمت الغربي أبعد بكثير من مجرد موقف، بدليل أن الكثير منها اضطر إلى استدراك الأمر لاحقاً، بعد أن شعر أن سياسة التجاهل تزيد الطين بلة، وأن هناك ما يستحيل تجاهله.
في القراءات الجادة والمنطقية، نستطيع أن نجزم- والأمر قبل الانتخابات وبعدها- أن السوريين لم ينتظروا المواقف الغربية، وأياً منهم لم يعوّل للحظة حين اتخذ قراره وحدد خياره، وأن الطيف الأوسع منهم كان مقتنعاً ببلاغة الرسالة التي يشارك في خطها سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً، وميدانياً أيضاً، ومشاهد السوريين المحتشدين لتأدية واجب المشاركة في الانتخابات قبل أن يكون دافع الحق هو الحاضر، تؤشر إلى أن الرسالة السورية كانت أبلغ من كل ذلك، وهي أكثر عمقاً وتجذراً من كل القراءات، وقد خطها يقين لم يخطئ يوماً ولم يجامل للحظة بأنها هذه هي سورية.
اليوم.. سورية هذه تخط تاريخاً لا يستطيع أن يكتبه أحد غيرها، وترسم خطوطاً في السياسة لا يمكن أن يرسمها سواها، فتسدل الستار على فصول، وتفتح منصات الإرادة والصمود والتحدي والإصرار على المواجهة، في خيارات وطنية مفصلية عبرت عن ذاتها في قرار الشعب باختيار الدكتور بشار الأسد رئيساً بأغلبية مطلقة.
a.ka667@yahoo.com