الملحق الثقافي:
حليم بركات الروائي وعالم الاجتماع(طائر الحوم) الذي ربما يؤخر ميعاده عاماً أو عامين، أكثر أو أقل لا يهم، فالرجل رائد حقيقي في مجال تخصصه واستكشافه.
والرائد كما تقول العرب لا يكذب أهله، فما بالك إذا كان هذا الرائد يشعر بنزوح غريب وعجيب إلى موطن الطفولة وملاعب الصبا، لايستطيع أن يغادر المكان روحاً وعبقاً وإن كان قد غادره جسداً ولو إلى حين.
حليم بركات عالم الاجتماع كما يجب أن يقدم، والروائي الذي استطاع أن يستفيد من المزاوجة بين الأدب وعلم الاجتماع كان ضيفاً في المركز الثقافي العربي في أبي رمانة في لقاء مفتوح كان أشبه بقراءة سيرة وحياة الأديب بركات وإن كانت الخطوط عريضة وتحتاج إلى الكثير من التفاصيل، قدم بركات للمكتبة العربية في مجالي الأدب وعلم الاجتماع ما هو جديد ومميز، وإن كان الأمر يقتضي منا أن نقف عند الخطوط العريضة في مسيرته، فإنما نفعل ذلك لنشير إلى أنها لم تكن رحلة هينة، ولم يأت ما قدمه على طبق من فراغ، ولم يحصد شهرة زائفة صنعتها أبواق إعلامية، لا بل يمكننا القول: إنه يستحق أكثر مما ناله ووصل إليه، وربما يكمن التقصير في هذا المجال في آليات التواصل، وضيق المساحة الزمنية التي يقضيها في الوطن حين يأتيه زائراً..
في فرانكفورت التقيته وفي معرض الكتاب الدولي وعلى أمل أن يكون بيننا حوار لكن الوعد لم يتحقق، وقد ذكرته بذلك في دمشق وأيضاً هنا ضاقت مفكرة الرجل بالمواعيد واللقاءات ولكن لا بأس أن نبحر ولو قليلاً في سيرة حليم بركات ونقف عند محطات في إبداعه من ملامح السيرة حليم بركات من مواليد سورية عام 1933م الكفرون رحل إلى بيروت مع أسرته لا يزال طفلاً صغيراً وزار دمشق في مقتبل العمر كما يقول وكان يطوف في شوارعها على غير هدى ويذهب أينما اتجهت به قدماه، لا لشيء إلا ليكتشف مكانا جديداً وعالماً جديداً..
حصل على الإجازة الجامعية عام 1955م والماجستير عام 1960 م في علم الاجتماع من الجامعة الأميركية في بيروت، ونال الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة مشيغان, آن آربور عام 1966
مؤلفاته ..
قدم أعمالاً مهمة في الجانبين الأدبي والبحثي، وإذا ما أردنا الحديث عن مجمل أعماله فسوف يستغرق الأمر طويلاً لكننا نشير إلى بعض مؤلفاته في المجالين.
– في الرواية والقصة
1- القمم الخضراء-رواية -بيروت 1956م
2- الصمت والمطر مجموعة قصصية -بيروت1958م
3- ستة أيام /رواية/ بيروت 1961م
4-عودة الطائر إلى البحر -رواية 1969م
5-الرحيل بين السهم والوتر- رواية 1979م
6-طائر الحوم- رواية- سيرة ذاتية- 1988م
7- انانة والنهر- 1995م
-في مجال الدراسات:
1-المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، وقد صدرت منه سبع طبعات آخرها عام 2001م وبعد ذلك طور الكتاب وعدله كما قال فبدا التعديد جذرياً وشاملاً، وغير رأيه في بعض المواقف، وصدر في طبعة جديدة وبأكثر من 1000 صفحة وأيضاً عن مركز دراسات الوحدة العربية.
2-حرب الخليج: خطوط في الرمل والزمن(يوميات من جوف الآلة) مركز دراسات الوحدة العربية عام 1992م
3- الديمقراطية والعدالة الاجتماعية- 1995م
4- المجتمع العربي في القرن العشرين وهو الكتاب الـول الذي أشرنا إليه وقد عدل وكتب من جديد.
5- الهوية.. أزمة الحداثة والوعي التقليدي- دار الريس عام 2004م ولم يشر إلى هذا الكتاب أثناء اللقاء في ثقافي أبي رمانة مع أنه من أهم ما قدمه بركات ..
– له أبحاث كثيرة بالانكليزية حول الثقافة والمجتمع العربي.
هكذا بدأت الكتابة..
مجلة الآداب اللبنانية وفي عددها 5/6/2000 أجرت حواراً ودراسة حول حليم بركات وقدمته على أنه روائي لبناني، في هذا الحوار كان ثمة سؤال مهم: كيف بدأ مشروع الكتابة معك..؟
فكانت إجابته: بدأت وأنا طالب في السنة الأخيرة من الابتدائية وبتشجيع من أستاذي بعد أن كتبت موضوعاً إنشائياً، وكنت في تلك الفترة قد قرأت قطعة لجبران، أظن الآن أن اسمها كان إنشودة أو نشيد الوطن، وهي نص شبيه بقصيدة السياب (إنشودة المطر) وقد وجدت النص في كتاب القراءة المعتمد وكان مختلفاً عن كل ما قرأناه في ذلك الكتاب من حيث مناخه الشعري وبساطة كلماته القريبة من الحياة، وقد تابعت قراءتي لجبران، فقرأت كل ما كتبه بالعربية، وأنا في السادسة عشرة، وبدأت أحب الكتابة متأثراً به، واستمر هذا التأثر حتى السنة الأولى من الجامعة عندما بدأت أقرأ القصص وكان أول من تأثرت به من القصاصين (سعيد تقي الدين) في مجموعته (غابة الكافور)فقد أحببتها وكانت مختلفة، وفيه الكثير من السخرية، ووجدتها أقرب إلى الواقع من كتابات جبران، فقررت أن أكتب القصة، وفي السنة الجامعية الأخيرة عام 1955م بعثت بقصة قصيرة إلى مجلة (الأديب) واستغربت أنها نشرت دون أي تغيير، الأمر الذي أعطاني الكثير من الثقة بضرورة الاستمرار في الكتابة، وبدأت تتكون لي لغة خاصة في الكتابة وأنا طالب في الجامعة بعد أن بدأت المشاركة في النقاش السياسي، وبعد أن تعمقت علاقتي بالواقع وأصبحت مهتما بالقضايا العامة، فالحق أن هذا الاهتمام بالقضايا العامة فتح أمامي مجالات عديدة وأصبحت الكتابة أكثر من مجرد تعبي عن الذات، وغدت تعبيراً عن انشغالات المجتمع كله أصبحت منذ ذلك الوقت اعتقد أنه يجب أن تكون للكاتب قضية، لكنني في الوقت ذاته كنت أؤكد على حرية الكاتب وعلى تفرده ومعاناته وبكلام آخر حاولت أن أجمع بين معاناة المجتمع ومعاناة الفرد، وحين أذكر أنني بدأت أتأثر بالفلسفة الوجودية وهذا التطور خلق نوعاً من الأزمة في علاقتي بالأحزاب، فقد كنت أريد الانتماء والعمل ضمن حركة منظمة ولكنني كنت أريد من ناحية أخرى أن أحتفظ باستقلاليتي وحريتي وبمسؤوليتي الخاصة وقد خلق هذا أزمة في علاقتي بالحزب الذي كنت أنتمي إليه.
الثقافة ليست دائرة مغلقة
في كتابه: الهوية وفي ص 226يطرح سؤالاً مهماً: كيف نحدد الثقافة؟
ويرى أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة، وهي مجمل أساليب حياته التي تشتمل على ثلاثة مكونات أساسية متداخلة هي: أ-القيم والرموز والأخلاق والسجايا-ب: الإبداعات التعبيرية عن مكنونات النفس الإنسانية من أدب.. ج: الإنتاجات الفكرية من علمية وفلسفية ونظرية، وتتداخل هذه المكونات حتى لا يجوز الفصل بينها في محاولة فهمها مجتمعة.. ويخلص إلى القول: تقتضي عملية التغيير إلا ننظر إلى أصالة الثقافة العربية على أنها مجرد التمسك بالأصول والثوابت بل تعني الاستمرار والصيرورة من حيث تفاعلها مع الثقافات الأخرى.
الهوية والتغيير
ويرى د.حليم بركات أن علينا أن ننظر إلى الهوية في إطار عملية التغيير على أنها في حالة دائمة من التطور والتكون والتحول إنها كينونة مستمرة شكلاً ومضموناً ومن حيث علاقتها بذاتها وبالآخر.
إن الوعي الذاتي معرض دائماً لتيارات التحول طوعاً أو قسراً فيعيد المجتمع الفاعل بالتاريخ والمنفعل به تحديد هويته المتوارثة، ويمنحها أبعاداً جديدة بما فيها تلك التي ربما لم يكن يتقبلها في السابق، وتدخل في صلبها عناصر لم تكن موجودة أصلاً.
أنسنة العدو ..؟!
قبل جلسة اللقاء مع د.حليم بركات كنت أعيد قراءة كتابه (المجتمع العربي المعاصر.. بحث استطلاعي اجتماعي) 2001م وفي الصفحة 463 وهي الأخيرة لفت انتباهي قوله: (ليست الثورة حتمية، ولكنها مصيرية، كي نتجاوز التخلف ونوقف الانقراض ونحقق العدالة ونسهم في إغناء الإنسانية، بما فيها إنسانية أعدائنا).. وعلى الفور قفز إلى الذهن ما قاله محمود درويش في لقاء تلفزيوني حين أشار إلى أنه يؤنسن عدوه.. وفي النقاش سألت د.بركات عن ذلك فلم يتذكر أنه كتب ذلك فأعدت التأكيد على أنه قال هذا وفي مكان كذا وكذا واضفت قائلاً: أريد أن أفهم كيف تؤنسن عدوك فأنا كقارئ أقبل ذلك منك كعالم اجتماع، ولا أقبله من محمود درويش..
أما لماذا أقبله من عالم الاجتماع، فلأنه ربما استطاع أن يجد طريقاً إلى الإمساك بمفاتيح العدو يحاول أن يجد ألف أسلوب وأسلوب -وأظن ذلك مستحيلاً- ولكن معرفة العدو نصف النصر، والنصر هنا معنوي إن استطعت أن تؤنسن عدوك، بمعنى أن تكون قادراً أولاً على أن تجعله يراك إنساناً، كما تصورنا أحقادهم (غوييم) أي حيوانات عالم الاجتماع بأساليب البحث المختلفة، عله يجد منافذ وأساليب أما الشاعر الذي ثار ونال شهرته على أساس الثورة ليست مهمته هذه ..
الإنسانية قوة…
وحين تدخل د.محمود السيد ليشير إلى تراثنا الإنساني وأننا اليوم بأمس الحاجة إلى النزعة الإنسانية، فهذا صحيح العالم كله بحاجة إليها، ولكن التراث العربي، أو لنقل إن العربي مارس إنسانيته عندما كان قوياً، والحضارة بمعناها المادي أما تكون شريرة أو إنسانية، وعالم اليوم لا إنسانية فيه لضعيف لأن الاخر المتجبر لا يرانا بشراً، اذا كان لا يقتنع بحق وجودنا فكيف ستؤنسنه. بل إنه لا يقبل مجرد الحوار.. وهل أذكر أستاذنا د.السيد بما قاله عنترة وقد ردده: لو كان يدري ما المحاورة.. لو كان عنترة ضعيفاً ولو لم يكن فارساً هل كان يستطيع أن يمارس إنسانيته.. الإنسانية لا يمارسها إلا الأقوياء، الأقوياء في البناء الحضاري الحقيقي ولنكون قادرين على أنسنة عدونا، دعونا نؤنسن أنفسنا ولننطلق من نقطة القوة، وإلا تحول الأمر إلى استجداء وذل في عالم لا تسوده إلا لغة القوة والمصالح، في عالمنا تحولنا فيه إلى أصفار على اليسار، كيف نؤنسن من يردد جهاراً نهاراً أنه مكلف بمهمة إلهية لإبادتنا، وأن نفوسهم لا تنام إلا حين تشرب من دمنا وبكل أسف نقول: حتى الخراف عندما تقدم على المذابح تقاوم وتنتفض حتى الرمق الأخير.. هل نقدم أنفسنا – وربما يفعل البعض- قرابين لا حول ولا قوة لها، لو كانت الإنسانية إنسانية الآن فما أجدرنا أن نسعى لأنسنة عدونا، ولعلي أذكر بما قاله د.شاكر مصطفى في كتابه: (حضارة الطين) لقد جعل العلم منا آلهة قبل أن نستحق أن نكون بشراً، ولو أراد صيغة أخرى لقال اشراراً وشياطين أليس من حق المذبوح أن يقاوم..؟
العدد 1130 – 31-1-2023