الملحق الثقافي- د جورج جبور:
كتاب الدكتور عبد الحسين هل سيثير نقاشاً حاداً في الأوساط «المستهدفة» (كما في التعبير الذي يتوسع استعماله)؟ هل سيستطيع المؤلف الخبير بفنون الحوار أن يتصدى وحيداً، إلى ما قد ينجم من عقابيل؟
عنوان كتابه: «دين العقل وفقه الواقع» صادر عن (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، حزيران 2021، 319 صفحة). البداية هي فك رموز عنوان المقال الذي شعرت بعبء كتابته.. استعنت بالمعري، مناظرنا الإنساني الكبير في شؤون الدين.
بدا لي أن صديقنا شعبان حاكاه في عنوان كتابه: «دين العقل».. ما عند شعبان إنما هو طباق «العقل نبي» عند المعري.
أما القراءة الانتقائية فلأن الكتاب يخوض أحياناً في تفاصيل التفاصيل التي لا تخطر ببال، ببالي على الأقل.. وهي انتقادية لأنني أحترم فكر عبد الحسين، ولا أحب للصداقة أن تطغى على نبوة العقل.
تبقى حكاية الترشح لجائزة نوبل للسلم، وهي حكاية تروق لي، وأراها تروق له أيضاً.. فلأتوسع بها وليتابع من تروق له المتابعة.
يجدر بالمفكرين العرب في زمن الأزمات، الذي نعيشه، أن يتداولوا: من منهم مفكر يعالج أوسع الأزمات انتشاراً على أرض الواقع ، ليكون مرشحًا لأرفع جائزة متعارف عليها وهي جائزة نوبل للسلم، مع تذكر كل ما يحيط بالجائزة من تساؤلات؟
بدأت معي حكاية الجائزة أوائل عام 1996 حين تلقيت رسالة من هيئة ذات صفة استشارية لدى الأمم المتحدة ، أو، بعض منظماتها تسألني تأييد أحد المرشحين من الشرق الأقصى.
ثم كانت ندوة في بيروت عن كتاب لشعبان يتناول فيه مواقف البغدادي الجد.. تحدثت بعد المفكر الوزير الدكتور عصام نعمان الذي أنهى تقريظه لكتاب شعبان باقتراح ترشيحه لجائزة نوبل.. شعبان ونعمان صديقا الأعوام الأخيرة، كما أحسب.. أما صداقتي لشعبان فتمتد إلى ما يقرب من أربعين عاماً.. هل أكون أقل حماسة لنوبلته؟ لا والله.. ثنيت وأثنيت.. وكانت لفضيلة الشيخ حسين شحادة، وهو من هو انفتاحا على الآخر، كانت له كلمة تأييد للترشيح..انتهى الفصل الأول.
الفصل الثاني مختصر.. كنت أستبعد من النشر في كتاب أعده للطباعة ما أشعر أن أهميته تضاءلت.. هو كتاب يجمع مذكراتي إلى رئيس مجلس الوزراء السوري بين عامي 1990 و 1998.. بعد لقاء بيروت أعدت إلى ما أعد للنشر رسالة تلك الهيئة ذات الصفة الاستشارية.. قلت: أنشرها وأذيع إلى من يقرأني حكاية الترشيح الثلاثي الذي حظي به شعبان في بيروت لدى الحفاوة بكتابه السابق عن البغدادي الجد، فعلت.
يبدأ الفصل الثالث بزيارة إلى دمشق أهديت خلالها عبد الحسين نسخة من كتابي الذي ظهر عام 2019 ولا تزال الدوائر المسؤولة في دمشق تتدارس مدى نفعه في ظروف سورية الحاضرة.. ينتهي الفصل الثالث وبه ينتهي أيضاً فك رموز العنوان، ينتهي بإشارة جميلة بها ابتدأ شعبان دراسة مطولة إيجابية جادة غنية عن كتابي.. ما هي تلك الإشارة الجميلة؟ هي تبيان موقفه من مسألة ترشيحه إلى الجائزة.
طال مقام فك رموز العنوان. فنأت إلى الطبق الرئيس.. فللكتاب الذي أتحدث عنه عنوان فرعي مفصح: «مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي».. أساسه الصلب قسمان أولهما عن الإطار المنهجي والمفهومي، وهو مختصر في أقل من خمسين صفحة.. أما القسم الثاني ويقع في ما يزيد عن مائتي صفحة فهو ثمانية عشر مناظرة مع الفقيه.. ثم هناك بدايات على سبيل التمهيد وكلام عوضاً عن الخاتمة.. أما الصفحة الأخيرة فصورة المتناظرين وخلفهما امتداد رفوف كتب متراصة.. صورة جميلة مكانها في الصفحات الأولى.
تلك أولى الانتقادات واتبعها مباشرة بمديح مستحق.. ثمة عشرون صفحة من المراجع ومن فهرس الفبائي.. عادة مقدرة، تتطور في بيروت خاصة، هي عادة إنشاء فهرس أسماء وموضوعات.. في دمشق بدايات لتلك العادة وهي تتطور.. يساعد تطورها على صيانة إغراء الكتاب بمواجهة وسائل الاتصال الحديثة.
يبدو جلياً من الكتاب في كلماته الأولى (ص 9) حماس المؤلف إلى الارتباط بـ»واقع التطور الذي يعيشه العالم»..في ذلك إشارة سرعان ما تتوضح إلى ما درجنا على تلخيصه في بضع كلمات من مثل أن معظم الفكر الديني في أزمة اغتراب عن العصر.
الكتاب في التصنيف الأكاديمي يندرج ضمن نطاق علم الاجتماع السياسي في بعده الديني.. ثمة فقه وفقهاء وثمة نظرات في أثر الفقه والفقهاء على المقومات الأساسية للمجتمع وعلى أنماط تحركه السياسي.
شهدت المجتمعات العربية كثيراً من النقاش العنيف بين ما يمثل شعبان وما يمثله مناظره.. لا حاجة للوقوف عند طه حسين وخوضه «في الشعر الجاهلي» ولا عند علي عبد الرازق و «أصول الحكم في الإسلام»، ولا طبعاً عند من اشتهروا بنقد الفكر الديني من معاصرينا كصادق العظم وفرج فودة.. تلك صور معروفة متدارسة لها جانبها الشرس.. نحن هنا أمام نقاش هادئ ودي النبرة.. لم لا؟ تلك سمة في عبد الحسين يحفظها له عارفوه.. بل هو حافظ لها في مقارباته واختياراته ومنها اختياره لمناظره: «ما يجمعني والسيد أحمد الحسني البغدادي مشتركات كثيرة ومختلفات غير قليلة.. ( ص 9).
هنا كنت أتوقع من المؤلف أن يعطي القارئ لمحة عن سيرتين تشتركان وتختلفان، أو على الأقل عن سيرة واحد منهما بعيد عن اهتمامات متابعي نشاط شعبان الفكري.. لم أنجح في توقعي.. بقي المناظر غريباً عني في حركة سيره عبر منقلبات العراق السياسية وما أكثرها، وما أعنفها.. كيف خاض في تلك المنقلبات؟ كيف تفاداها؟ ما مدى انسجام ثوابته الفكرية مع المنقلبات الفاعلة في المواقف؟.
أمر آخر بقي دون شفاء غليل.. كيف كان تقبل الفقيه لفكرة مناظرة مع المؤلف؟ شعبان مبادر والفقيه متلق.. لشعبان تراثه في بحوث المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان.. ومع تراثه حماسته لـ :» التبشير»، أما الفقيه ففي موقع أشبه بالدفاعي.
خرج المؤلف سعيداً بما أنجز.. طلع علينا بكتاب.. أرضى الكتاب المناظر لكنه ليس كتابه.. جملة أمور دقيقة تتبادر إلى الذهن إذ تمضي في رحلتك مع كتاب بدا لي فريداً في بابه.. الرسالة الأساسية للكتاب واضحة: نحو مزيد من دين العقل «فكل عقل نبي».
ويتابع هذه الرسالة في ثمانية عشرة مناظرة تدل عناوينها على شمولية تكاد تكون تامة.
يبدأ من الإيمان إلى اللا إيمان وينتهي ب «علم الغيب» ،مروراً بمصادر التشريع، تقرأ فتدهش وتسر.. تدهش بالجو الودي وبالتفاصيل الدقيقة في الفقه، وتسر لأنك وسعت مداركك.. وتسر أيضاً بذكاء الأوائل والأواخر.. وقد دهشت وسررت، ثم لازمني شيء من مراجعة الذات.. نناقش: «تتغير الأحكام بتغير الأزمان».. هي قاعدة من القواعد الفقهية في «مجلة الأحكام العدلية» التي لمحنا بعضًا من تاريخها مع الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء في كلية حقوق جامعة دمشق أواخر الخمسينات من القرن الفارط حسب التعبير المغاربي الجميل.
هي قاعدة في مجلة (كلمة مجلة هنا تعني كلمة: جامع) في مكان ما بالإنجليزية أو الفرنسية قرأت إن هذا المبدأ كان موضع اعتراض شديد.. الأحكام هي الأحكام الشرعية، فكيف تتغير؟ يقال: رضي المعترضون بإضافة كلمتين كما يلي: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان». روايات عنا ولا روايات لنا.. كتبوا ما يعرفونه عنا.. وكتمنا ما نعرفه عن أنفسنا.. تضاعفت المتاهة..غدونا ننقل عنهم علمنا بأنفسنا.
هل لدى أي متابع منا علم بواحد من أسلافنا عايش تلك الفترة فكتب عن كيفية صياغة «الثورة» التي كانت «مجلة الأحكام العدلية»؟ أعرف حالة واحدة.. رحم الله السفير الدكتور اسعد الأسطواني الذي نشر مذكرات جده عن مرحلة دقيقة في تاريخ بلاد الشام هي مرحلة التنظيمات.. مذكرات غنية نافعة لكل من يهتم بتلك المرحلة ولكن الإشارات إليها نادرة في بحوثنا نحن المعاصرين.
«ثورة» مجلة الأحكام العدلية؟
هل سيتابع الصديق المؤلف حفرياته في مجتمع أهل النجف والمجتمعات المتشابهة متوغلًا في أعماق المواقف الإيمانية و «الإيمانوية» من الانشغالات العراقية المعاصرة ؟ من المفيد أن يفعل.
نتحدث عن الدين والفقه فيتجه الذهن إلى المسيحية وهي التي لها دور لا ينكر في صياغة العالم المعاصر.. الفاتيكان أقوى المؤسسات المسيحية أثراً.. فلتكن لي معه هنا استعادة لما حدثت به من جنيف ( 16 ك. الثاني 2008) لفيفًا من المعنيين الدوليين بمناهضة العنصرية.. ولمن شاء استزادة أن يعود إلى كتيبي: «الغفران المتبادل بين المسيحية والإسلام» (دمشق، آب 2012، بمناسبة زيارة قداسة البابا إلى لبنان، 49 صفحة من القطع الصغير).
كان بابا اسمه « بندكتوس».. وكان له خطاب اعتبر منتقداً للإسلام.. وكان لي تحديق في ذلك الخطاب كما يوجب علي اهتمامي بالحوار بين ثقافات العالم.. اكتشفت تمييزًا يجعل مسيحيي آسيا في درجة أدنى من مسيحيي أوروبا.. اعتبرت ما أتى به البابا المتقاعد – وهو أول بابا يتقاعد وربما أنه قوعد- اعتبرت ما أتى به «مسيحوياً» وليس مسيحياً.. لكن: من يجرؤ على تحمل النتائج التي تنجم عن تخطئة المعصوم من الخطأ؟.
العدد 1130 – 31-1-2023