الملحق الثقافي- فاتن دعبول:
كثيرون ربما لا يميزون بين أدب السيرة وأدب الاعتراف، ففي الوقت الذي يعنى أدب السيرة بالتأريخ لحياة الإنسان، وخصوصاً هؤلاء الذين لهم أدوار مؤثرة في المجتمع، ويجد الناس متعة في معرفة بداياتهم ومشوار حياتهم، نجد أن أدب الاعتراف يقوم على البوح والإفصاح والمكاشفة من جانب الكاتب الذي يتصدى له، فنجد الأديب مثلا طه حسين يكتب سيرته الذاتية في كتابه»الأيام» لكنه لا يكشف أسراراً من الصعب أن تروى.
وكذلك فعل العقاد في كتابه»أنا» وتوفيق الحكيم في كتاب»سجن العمر»، ويحضر في الذاكرة أيضا كتاب»أيام معه» للأديبة كوليت خوري التي كشفت فيه عن علاقتها بالشاعر نزار قباني.
ولكن هل كانت هذه الكتب تقدم الحقيقة كاملة كما جاء في مقولة جان جاك روسو في كتابه»اعترافات جان جاك روسو» والذي نشر بعد وفاته وكان قد بدأه بعبارة»أنا اليوم قادم على أمر لم يسبقني إليه سابق، ولن يلحق به لاحق، أن أجلو لإخواني بني الإنسان، إنساناً على حقيقته وفي صميم طينته، وهذا الإنسان هو أنا» رسالة طويلة يخاطب فيها الله ليعترف بذنوبه ويتطهر منها.
في الحقيقة إن هذا الأدب ربما لم يزدهر في الأوساط العربية، ذلك أن الأوضاع في الوطن العربي ومنظومة القيم السائدة تحكم رؤيتنا لذواتنا وللعالم، لأن ثمة رؤى محظورة في»الدين، السياسة، الجنس» لذلك يندر أدب الاعتراف وما يكتب فيه يكون عبر دهاليز ربما لا يستطيع الكاتب أن يكشف عن نفسه، فمثلاً الكاتب إحسان عبد القدوس الذي كتب أدباً جريئاً في سياقه الزمني من خلال شخصيات رواياته، لكنه لم يكتب ممارسته الذاتية وتجاربه في هذا المجال، رغم علاقته بكاتبة لبنانية شهيرة في زمانه.
وفي ظل هذه الثقافة التي تحض على الستر، وتحتفي بطي الصفحات السوداء، وهذه الصور الذهنية السائدة عن ضرورة المحافظة ورفض الاعتراف، نجد كيف أحرق العقاد يومياته خشية ما قد تجره عليه من أخطار.
والسؤال الذي نطرحه اليوم وفي ظل مرحلة جديدة تسودها التقنيات الحديثة وعالم الصفحات الزرقاء والفضاء المفتوح، كيف يقيم الكتّاب أدب الاعتراف، وهل استطاع هذا الأدب أن يجد مكانه في الأوساط الثقافية وفنونها الأدبية في الوقت الراهن؟
حرية المبدع
يبين الدكتور إبراهيم زعرور أن كلمة إبداع أو مبدع تستوجب الوقوف طويلاً وبعمق قبل أن نقول شيئاً، حتى وإن كان وجهة نظر تحتمل الخطأ والصواب، وأيضا يفترض بالمبدع أن يقرر بنفسه ماذا يريد أن يقول ويعترف بكل وضوح وصراحة وشجاعة، معبراً عن أفكاره سواء تطابقت مع ما هو مألوف بالأعراف الاجتماعية، أم مخالف لتلك الأعراف، وبالتالي لابد للمبدع وهو يقر ويعترف أن تكون الإحاطة لديه، سواء أراد التوافق أم الاختلاف مع ما هو متعارف عليه في المجتمع، لأن المبدع ليس من حقه أن يحتفظ بإبداعه في أي مجال من مجالات الحياة، على تعددها، سواء الفكر والفلسفة والأجناس الأدبية أو الفنون أو العلوم النظرية والتطبيقية إلى آخر التسميات والمصطلحات التي تدخل في إطار الإبداع والمبدع.
والاعترافات وبكل صراحة ووضوح وشجاعة وبسالة، أقول: إذا كان تميز المبدع لا يؤهله لأن يقنع الآخرين بما أبدع لدرجة الانبهار، فالمادة تعطيه صفة المبدع، وأعلى درجات الإبداع لدى المبدع المصداقية التي نحتاجها في حياتنا العامة والخاصة، وعندما نستعرض أسماء البعض في كل مجالات الإبداع، يشير البعض إلى بعض السلوك»عند البعض» لا ينسجم ولا يتوافق مع روحه الإبداعية لسبب أو آخر قد نعرفه أو نجهله وعلى المستوى الوطني في سورية بتاريخنا الحديث والمعاصر نجد عدداً كبيراً من المبدعين على سبيل المثال لا الحصر يستوقفنا، عاشق دمشق نزار قباني، والمبدع محمد الماغوط ، ومبدع المسرح سعد الله ونوس، والمتعدد المواهب ممدوح عدوان حيث نجده في كل مكان، وهو في الطليعة، وغيرهم الكثير.
ويضيف د. زعرور: أظن أن عدم ذكر جميع المبدعين لا يفقدهم ريادتهم كل في مجاله وتخصصه، سواء أكان راوياً أم قاصاً أم شاعراً أم فنانا أم فيلسوفاً أم عالم اجتماع أم باحثاً مهماً في تاريخ الحضارة العربية، وما قدمه العرب للبشرية من إبداعات وخاصة في نهضة أوروبا في القرن الخامس عشر، وليس من الممكن حقيقة المرور على كل قامات الإبداع في وطننا الغالي.
ولعلها مناسبة لتحفيز الجميع للإبداع بنفس روحية المبدعين الذين غابوا وهم حاضرون معنا بإبداعاتهم، وما قدموه لنا وللأجيال في سورية، الوطن الغالي.
أصدق أنواع السرد الأدبي
ويرى محمد الطاهر صاحب دار النشر»توتول» أنه عندما نتحدث عن المبدع وأدب الاعترافات، فهذا يقودنا للحديث عن أدب السيرة الذي هو جزء مهم من الأدب الروائي والقصص والذي أصبح يشغل حيزاً مهماً من أقلام الكتّاب في كل أنحاء العالم.
ويطلق عليه أدب الاعترافات لأن الكاتب يضخ بلا حرج اعترافاته بكل جرأة مستخدماً طريقة الأنا أو الهو، ما يجعله في حل من الشهادة على نفسه، ويقال إنه أصدق أنواع السرد الأدبي، نجد ذلك في بعض روايات نجيب محفوظ»بين القصرين» ورواية»زناة» للروائي سهيل الذيب، ورواية»العلم» للروائي محمد الحفري وروايات كثيرة.
وأدب الاعترافات هو أكثر أنواع الآداب سلاسة ويتميز بسهولة فهمه من قبل كل القراء على اختلاف مستوياتهم، فهو يخاطب المتلقي مباشرة من دون وسيط، لذلك نجده الأفضل من غيره، وإن كنت من رواده وكتبت روايات مثل رواية ماري، ورواية شمو، وأرض الجهاد، وموعد مع الشمس، ورواية حراس المدينة، وجميعها روايات فازت بعدة جوائز.
تجارب حياتية بقالب شفيف
أما الشاعر مزاحم الكبع فيرى أنه حين يشرع الأديب أو المبدع في كتابة سيرته الذاتية، فلابد أنه قطع أشواطاً من الإبداع والتميز، وأنه بلغ من العمر حداً يجيز له التوقف واستذكار حياته ومسيرته الطويلة بكل نجاحاتها وإخفاقاتها وانعطافاتها بأسلوب أدبي شائق وشفيف، لا يقل ألقاً وإبداعاً عن أعماله وإنجازاته السابقة، بل هي استمرار وتتويج وإطار عام وشامل له ولمسيرته على مر الأعوام.
فأدب السيرة لا يقل أهمية عن فنون الأدب الأخرى، بل يكاد يسمو عليها بما له من خصوصية وتفرد وذلك حسب قدرة الكاتب على نثر عوالمه الداخلية ممزوجة بتجاربه الحياتية الإبداعية بقالب شيق شفيف.
تحت المجهر
وتؤكد الأديبة سوسن رضوان أن أدب السيرة هو فن أدبي يعرض لحياة الأديب بأسلوب محبب، وهو يضع حياته تحت المجهر، ويمكن أن تقسم السيرة الذاتية إلى قسمين، الأول بقلم الأديب نفسه وآخر بقلم أديب آخر يبحث ويفتش عن تفاصيل يمكن أن تكون خافية عن المتلقي، فمن يكتب سيرته بنفسه قد لا يفتح أبواب كهف حياته كاملة، فيبقى أحدها مغلقاً، وهو وحده من يمتلك مفتاحه لأمر يخفيه ولا يعلمه سواه، ما يجعل سيرته أقل مصداقية أو ربما ناقصة بعض الشيء.
إن السيرة الذاتية عموماً تكون مثيرة للاهتمام، بدليل سير الأولين من مثل» ابن خلدون، ابن حزم، ابن طولون» وسواهم التي لم تزل تثير شغف القراء إلى يومنا هذا، لما تعرضه من أقوال وأفعال ومنهجية فكرية كانت خاصة بأصحابها، على الرغم مكن التسلسل الزمني الذي ينقص بعضها لأسباب نجهلها.
مفتاح عالم الكاتب
وترى الشاعرة طهران صارم أن السيرة الذاتية هي مفتاح التعريف بالكاتب والمبدع والعالم وغيرهم من الأشخاص، فمن خلالها يمكن للقارىء أن يتجه نحو إنتاج الكاتب للقراءة والبحث والاطلاع، وتبين بدورها أنه من المهم جداً أن يكون الكاتب أو الشخص صادقاً في التعريف عن نفسه لأن أي تزييف أو مبالغة في تقديم شخصه سيخلق تبايناً بينه وبين أعماله، وهذا ما يجعل القارىء غير مقتنع بطروحاته وأفكاره التي يقدمها في منتجه الإبداعي.
وتقول: يميل بعض الكتاب للإطالة في سيرهم الذاتية، وأنا أرى أن السيرة الذاتية تكتبها أعمال الكاتب وإنجازاته الفكرية وما يقدمه للقارى.
وبالنسبة للكاتب الذي يضع سيرته الذاتية في كتاب، فغالباً ما تكون حياة هؤلاء تستحق الوقوف عندها، حيث يوجد عندهم محطات كثيرة تشكل دروساً وعبر وغالباً ما تكون دليلاً ومرشداً للأجيال، وخاصة الكتّاب الجدد ممن هم في بداية الطريق، ومن هؤلاء العظام طه حسين ونجيب محفوظ وفدوى طوقان، ومنهم أيضاً جبرا إبراهيم جبرا وغيرهم كثير.
العدد 1130 – 31-1-2023