الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
من بين جميع الكتّاب، اعتبر أن تولستوي هو من يتحدث إلي أكثر، وأشعر معه بأكبر قدر من التقارب. بالطبع كان لتولستوي أخطاؤه. وتوضح لنا في مذكراتها زوجته صوفيا تولستوي، مدى صعوبة العيش معه. لكن أكثر ما يجذبني في هذا الكاتب هو جهوده المستمرة لإيجاد نظام في الحياة، ولرسم معالم ذاتٍ ذاتِ سيادة في المادة المضطربة والمتغيرة لشخصه، على الرغم من إخفاقاته العديدة. نظرًا لعدم إعجابه بالفكر السائد في وقته وبيئته، فقد حاول دائمًا رسم مساره الخاص والحفاظ على فكر مستقل.
مع اقتراب نهاية حياته، أصبح تولستوي أكثر عزلة، بل ووقع في أزمة وجودية. وللخروج من المأزق، انخرط الكاتب في سبر أغوار الضمير، سجله ضمن سلسلة متوالية من المقالات. كان «اعترافي» أول محاولة لها. وينتهي الأمر بتولستوي إلى بناء نظامه الفلسفي والديني الخاص. يسيء معاصروه فهم هذا التحول: فالمثقفون يرونه مرضًا للعقل، بينما تعده السلطات الكنسية الأرثوذكسية بدعة خالصة.
نشأ ليو تولستوي وفق التقاليد المسيحية الأرثوذكسية. وفي كتابه «اعترافي»، يخبرنا كيف فقد إيمانه خلال سنته الثانية في الجامعة، أي وهو في الثامنة عشرة من عمره. ويتم ذلك دون الكثير من المتاعب ودون إيلاء الكثير من الاهتمام له، مثل ظل الظهيرة الذي يسقط دون تنبيهنا بينما نمضي في أعمالنا اليومية. يبدو أنه كان شيئًا شائعًا جدًا بين الشباب المتعلم في روسيا في ذلك الوقت، وكان بديهيًا بعض الشيء. ولدى تفكيره في الأمر، أدرك تولستوي أنه حتى عندما كان طفلاً لم يكن يؤمن حقًا، وأن ما سماه بعد ذلك الإيمان كان فقط «الثقة في ما يمارسه الكبار». «لقد مارسنا عادة دون أن نأخذها على محمل الجد».
ولكن، وعلى الرغم من أن تولستوي لم يتبع العقيدة التقليدية، إلا أنه كان لديه إيمان شخصي، وإن كان غامضًا: «الإيمان بالكمال». ويتضمن هذا الكمال كلاً من شخصه المعنوي والجسدي في سلسلة من التمارين لتحسين نفسه، ليصبح أكثر مرونة وقوة. هذه الرغبة في التعديل، التي كانت في البداية شخصية وحميمة، بدأت تجد هدفها ورضاها في إرضاء الآخرين. هكذا انحدر إلى شيء آخر، أي «الطموح، الشغف بالسلطة، الجشع، الشهوة، الكبرياء، الغضب، الانتقام …» يتألم أكثر فأكثر بسبب الندم، خاصة بعد خدمته العسكرية. ومع ذلك، فهو لا يزال يعيش دون توقف من أجل القليل من التوازن، على الرغم من أن «الحياة دون امتحان لا تستحق العيش.» يكتب ويصبح معروفًا بموهبته. محاطًا بأناس من العالم الأدبي، لينخرط في «إيمان جديد، إيمان بـ «أهمية الشعر وتطور الحياة».
عند قراءة «اعترافي»، نجد أنه من المثير للاهتمام فحص هذه المظاهر المختلفة للإيمان في حياة تولستوي لفترة طويلة بعد أن فقد إيمانه بما هو شائع لدى الناس. لأن الإيمان تتسع أبعاده ليشمل اختصاصات شتى. حياتنا مملوءة بظواهر الإيمان، من الأصغر إلى الأكبر، من الأكثر عفوية إلى الأكثر تفكيرًا، من الاعتقاد بأن الشمس ستشرق غدًا إلى الإيمان بالمبادئ الحميمة التي تحكم حياتنا.
صار تولستوي على مر الأيام يشعر بالاشمئزاز أكثر فأكثر من العالم الأدبي ومُثله العليا. ظهر له الخداع بشكل أوضح: فبالنسبة للعديد من هؤلاء المؤلفين، كهنة الشعر هؤلاء، لم تكن الرغبة الحقيقية في تثقيف الناس بقدر ما كانت في جذب المال والثناء. كما كان يشك بشكل متزايد في الاعتقاد في التقدم الذي كان قوياً للغاية في أوروبا، وخاصة بعد مشاهدته خلال زيارته إلى باريس عملية إعدام بالمقصلة، وقد وصفها بأنها مظهر من مظاهر الحداثة. ثم رأى في التقدم «إجحافاً عامًا» بحق العصر «الذي يلجأ إليه الرجال عندما لا يستطيعون تقديم تفسير للحياة».
كان غير راضٍ، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولم يرتوِ بأي حال من الأحوال من جميع المعتقدات التي كانت تسكن حياته، حتى ذلك الحين, إلى حين وقع في أزمة وجودية حقيقية. كانت هذه الأزمة من الدرجة التي شعر بها بالشلل: «كأنني لا أعرف كيف أعيش» ثم «توقفت حياتي».. كان مصدر يأسه بسيطًا ومخيفًا: «الحقيقة هي أن الحياة هراء». هذه الملاحظة ليست محايدة. ويعترف تولستوي بشعور يخالجه الاشمئزاز واليأس، كما لو كان يخرج من الوهم: «لا يمكن للمرء أن يعيش إلا حينما يثمل بالحياة ؛ ولكن عندما تصحو، لا يسعك إلا أن ترى أنها كلها خدعة وخدعة غبية».
تبع ذلك بحث محموم وعبثي عن معنى محدد للحياة، عن معنى لا يدمره الموت: «وكنت أبحث عن تفسير لكل هذه الأسئلة في كل هذه المعرفة التي اكتسبها الرجال. وبحثت بشكل مؤلم وطويل وليس من باب الفضول المترف. لم أبحث بتراخٍ بل فتشت بألم وعناد لأيام وليال كاملة. كنت أبحث مثل رجل يضيع و»يحاول إنقاذ نفسه؛ ولم أجد أي شيء.»
لم تعد المثل العليا للنمو والتطور الذاتي تقدم إجابات لتولستوي. من الصعب حقًا الإيمان بمثل هذه المثل عندما يتوقف الجسم عن النمو ويبدأ في الانهيار مع تقدم العمر. كما أن الحكمة والفلسفات القديمة لم تقدم له إجابات، لأنها أكدت له في إحساسه بأن كل شيء باطل ولا شيء جديداً تحت الشمس، وتلك العلوم بقدر ما كانت أنيقة ودقيقة، غابت مع السؤال الذي عذبه: لماذا (وليس كيف) يعيش؟
وحينها طفق يبحث عن معنى الحياة بين الناس، هؤلاء الذين لا يبدو أنهم يعذبون أنفسهم بمثل هذه الأسئلة، واثقين من إيمانهم بالدين. ثم غامر تولستوي بالدخول إلى الكنائس وحتى في مركز الاعتراف، لكنه لم يجد الرضا التام هناك. كلما تعمقت معرفته بالدين، واجه تناقضات أو أفكارًا غير مقبولة لعقله. قراءاته وصلواته لم تكن تنهض به بأي شكل من الأشكال. إنه يبحث عبثًا عن إيمان دون حماقة، ذلك الذي لا يضع تفكيرك السليم وعقلانيتك على المحك. علاوة على ذلك، فقد كان مرعوبًا من بعض أعمال الكنيسة، وتوافقها ودعمها للنظام في ذلك الوقت.
أخيرًا وبعيدًا عن الدين، يبدو أن تولستوي بدأ في العثور على بعض عناصر الإجابة في نهاية اعترافه، دون أن يوضح ذلك. وتحدث عن علاقة المحدود باللامحدود والإسهام في الحياة العامة. ولكن مهما كانت نتيجة رحلة تولستوي الوجودية، يمكننا أن نحتفظ على الأقل بهذا: أهمية البحث الفردي والسيادي عن معنى حياة المرء، إذا كان هناك معنى. لكن لا يزال من الضروري التحلي بالشجاعة للقيام بذلك في أي مرحلة من مراحل حياة المرء، دون الاعتراف أبدًا بالهزيمة بسبب التقاليد أو عادات الفكر أو روتين الحياة اليومية أو حتى الراحة المترفة.
العدد 1130 – 31-1-2023