الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
يمتح الكاتب؛ في مدوّناته؛ ولا سيّما الإبداعيّة منها، من رصيده المعرفيّ، وقاموسه الحياتي، ومرجعيّاته الوجوديّة المادّيّة والمعنويّة، ورؤاه وتصوّراته وخيالاته، ويغرف، ممّا عاشه، وجرّبه، وخبره، وعاناه؛ أو يجتزئ منه، ويحوّره، ويموّهه، ويواشجه، ويحاول أن يبعد «التهمة» عنه، وينفي «الشبهة» عن شخوص أعماله وبيئتها ومناسباتها وطقوسها وأحداثها، أو عن تماثل وتقارب في النصّ والتسميات والملامح، مع المعارف والمحيط والمعيش؛ حتّى ليُقدِم على استهلال نصّه- أحياناً- بـ»تصريح خطّيّ»، يطلب إحالة أيّ تشابه بين ما في المكتوب من قبله والواقع خارجه إلى المصادفة؛ إمعاناً في محاولة التعمية أو الخداع؛ وفي هذا التصريح ما فيه من اعتراف ضمنيّ بارتكاب الجريرة، أكثر من تبرئته منها؛ حسب المبدأ المعروف: «يكاد المريب يقول خذوني»- وبالمناسبة لم أثبّت مثل هذا «الاعتراف» من أجل أيّ ممّا كتبت، ولا أهتمّ كثيراً أو قليلاً بمثل هذا- وتختلف نسبة هذا التقاطع والتعالق؛ وربّما التطابق وحرفيّته بين كاتب وآخر، وبين نصّ وآخر للكاتب نفسه.. ولا بدّ من تأكيد أنّ حضور مثل هذا القاسم المشترك بين داخل المكتوب وخارجه ليس عامّاً، ولا حتميّاً، البتّة، وهناك في النصوص الإبداعيّة ما لم يُعَش من قبل الكاتب، وما لا يعرف أصله الواقعيّ؛ بل ربّما عاشه آخرون، وتناهى إلى الكاتب أو وعيه أو لا وعيه بالتواتر وبأيّة طريقة ممكنة، وهناك ما يُتمنّى أن يعاش، أو يُفترض أن يعاش، وقد لا يُتبنّى، كما أنّ هناك ما هو نتاج عقل المؤلّف، وما هو كامن في باطنه، ومن تهيّؤاته، واشتغال تفكيره، وانشغاله به، والاهتمام بعرضه وتدبيره ومعالجته، والوصول إلى حالات أو خلاصات احتماليّة؛ من خلال النصّ أو عبر ما يتركه من انعكاسات وأصداء لدى القرّاء والنقّاد والمتابعين… فالكتابة الإبداعيّة تفاعل أكثر منها تصويراً، وتخلّق وتخليق، أكثر منها توصيفاً…
وإذا كان الكاتب لا يقول الصدق- غالباً- حتّى في نفيه العلنيّ أو المنصوص للعلاقة بين ما كتب، وما هو واقع، وليس مطلوباً أو ضروريّاً منه أن يطابق بين الإبداع والحياة المعيشة، ولا متوقّعاً، ولا مأمولاً؛ وليست تلك العلاقة- إن وجدت- عيباً أو جريرة أو إشكاليّة؛ إلّا من المنظور الأدبيّ الفنّي؛ فكيف يمكن أن يكون الأمر حين يكتب سيرته الذاتيّة أو اعترافاته؟! وهل عليه أن يقول «الحقّ، كلّ الحقّ، ولا شيء غير الحقّ»؟! وهل هو في شهادة أمام محكمة، وقد أقسم على ذلك؟!
لنعترف أنّنا؛ حتّى بيننا وبين أنفسنا، نحاول المرور على كثير من تفاصيل حيواتنا من دون توقّف، معرضين عنها، ونتمنّى ألّا نتذكّرها، وأن تمحى من تاريخنا؛ فما بالك وأنت تسرد تلك التفاصيل على الملأ؟! نعم هناك تطهّر أو تطهير في الاعتراف، وربّما فيه نوع من محاولة العلاج؛ كما في التنويم المغناطيسيّ مثلاً، أو لدى الجلوس إلى طبيب نفسيّ، أو الاعتراف الطقسيّ الدينيّ… ولكن من دون شكّ، ستبقى أشياء من دون عرض؛ بهذه النسبة أو تلك؛ خجلاً، أو نكراناً، أو خوفاً من ردود أفعال، أو من تغيير نظرة، أو من موقع ونفوذ ومسؤوليّة؛ هذا إذا كانت أموراً مهمّة ومؤثّرة، وتستحقّ أن تذكر؛ فهناك ما هو هامشيّ ومألوف وعاديّ، لا يفيد استذكاره، ولا يهمّ كثيرين، ولا يثير انفعالاتهم، ولا يشغل تفكيرهم؛ ولا يخفى ما يثير تلك الانفعالات أكثر لدى المتلقّين، وما هو أكثر تشويقاً وإثارة ومتابعة وتندّراً ربّما؛ وقد لا يكون أكثر أهمّيّة لدى الكاتب أو في المكتوب؛ فيما تختلف ردود الأفعال الواعية تجاه الأشياء الجوهريّة، التي تبعث على التأمّل والتفكير، والتساؤل حول الأسباب والنتائج والجدوى؛ ومن المؤكّد أنّ هناك ما يثير الانفعال والوعي معاً، وهو الأكثر أهمّيّة وفائدة وانعكاساً على شرائح ونماذج ومسارات وسلوكات وأحداث في الحياة.. وفي واقع الأمر، ومن دون تردّد، يمكن القول: هناك أشياء لا تُذكر، وأفعال لا تروى، وأفكار لا تُقال، ونزوات لا يُصرّح بها، وغايات لا تُعلن! وقد يكون هذا أفضل للكاتب والقارئ والمجتمع والحياة؛ والعكس صحيح أيضاً؛ وهناك قضايا تُدّعى، وأشياء تُختلق، ووقائع تُجمّل، وعلاقات تُزيّن، ومواقف تُبهّر، وتبخّر، وتفاصيل تُصعّد، وصفات ومواصفات تُفترض، ويسترسل في سردها، ويبالَغ فيها…
وعلينا ألّا ننسى؛ ونحن نعترف أدبيّاً، أو نكتب سيرة ذاتيّة، أنّنا نكتب أدباً؛ وللأدب- وللكاتب- أسلوبه ولغته وبناؤه وسياقه وكيانه؛ فما يحدث في الحياة، قد لا يستساغ في الأدب، إذا ما أريد التعبير عنه بأمانة مطلقة، وهناك ما يغري بكتابته والاستطراد في صياغته والإضافة عليه؛ ليصبح كائناً حياتيّاً أدبيّاً.
ومن الطبيعيّ والمألوف أن يتخيّر الأديب من سيرته تلك الأشياء التي أوجعته، أو عانى منها، أو تلك الأشياء التي كانت إيجابيّة مساعدة؛ أو على الأقلّ، يراها مفيدة للناس، ويودّ التصريح بها، أو يحتاج إلى ذلك، وهذا يعود إلى تقييم الكاتب، الذي قد يقع تحت التأثير الانفعاليّ في تذكّره، وكتابته، وزمان الكتابة والنشر، وقد يختلف كلّ هذا من كاتب إلى آخر، ومن وقت لآخر للكاتب نفسه؛ فتختلف حدّة الكتابة وشفافيّتها ومصداقيّتها وقدرة الشخص على مصارحة ذاته والورق؛ ناهيك بالآخرين؛ كما أنّ عوامل أخرى تتدخّل في أمر التدوين والنشر؛ ذاتيّة وعامّة، وقد تؤثّر البيئة والانتماءات والرقابات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والدينيّة وسواها في هذا؛ وقد تكتب أشياء ليست للنشر، وتنشر ربّما بعد رحيل الكاتب، أو تغيّر الظروف من حوله؛ وهناك كتابات حبّاً في الظهور والشهرة والإثارة، وأخرى انتقاميّة من النفس والآخرين؛ كائنات وجهات ومؤسّسات، قد تكتب، وتنشر؛ بتأثير حالات وضغوطات نفسيّة وانتمائيّة ومواقفيّة… وهناك ما ينشر، يمكن أن يكون غير مألوف وغير مستساغ وفائدته محدودة؛ وقد يكون مسيئاً ومؤذياً ومحرّضاً على الكراهية والعنف والممارسات الخاطئة.. وهنا تجدر الإشارة إلى المسؤوليّة متعدّدة المناحي، التي يجب أن تؤخذ بالحسبان في أثناء كتابة هذا النوع من الأدب؛ من دون أن يعني هذا الحدّ منه، أو التضييق عليه.
وممّا يؤسف له، أن تؤخذ الاعترافات من سياقها، وتصبح مادّة للتشهير والاتّهام والإدانة، وربّما الحكم من دون محاكمة! وأن تُتلقّى المادّة، التي سيقرؤها مختلفون في المستوى، بما لا يتناسب مع أدبيّتها، وفضيلة الاعتراف بها، وأهمّيّتها المعرفيّة والسلوكيّة والنفسيّة، وربّما التاريخيّة.
العدد 1130 – 31-1-2023