الملحق الثقافي- سلام الفاضل:
يقول الناقد السويسري جان ستاروبنسكي في دوافع كتابة السيرة الذاتيّة: «لا يكاد المرء يجد دافعًا كافيًا لكتابة سيرة ذاتيّة ما لم يطرأ على حياته تغيير جذري – اعتناق مذهب جديد، دخول حياة جديدة، رعاية إلهيّة. فإذا لم يمسّ هذا التغيير حياة الراوي فإنّه يستطيع فقط تصوير ذاته مرّة وإلى الأبد، والتطوّرات الجديدة يتمّ تناولها باعتبارها أحداثًا خارجية». وإذا أردنا الاستناد إلى هذه المقولة في كتابة السيرة الذاتية، وتصفحنا أنماط السير الذاتية التي خلّفها وراءهم الأدباء، والكتّاب، والأعلام، والسياسيون لوجدنا أن كثيراً منهم حاول خلالها سرد الأحداث والوقائع التي أوصلته إلى ما هو عليه، لعل ذلك يكون قبساً من نار يهتدي به من يقرأ هذه السير، أو عوناً على تجاوز الصعاب التي تعترض سبيل الحياة، أو طريقاً لفهم المغزى وراء بعض المواقف، أو تبيان ما قد تؤول إليه الأيام.
ولعل كتاب (الأيام) لعميد الأدب العربي طه حسين هو خير مثال على هذا النوع من السير الذاتية إذ وصفه المستشرق المعروف هاملتون جب بالقول: «وأهمّ من ذلك كلّه من الناحية الأدبيّة سيرته الشخصيّة التي دعاها (الأيام)، هذا الكتاب الذي استحقّ الثناء لما فيه من عمق في الشعور وصدق في الوصف. ويمكننا أن نعتبره بحقّ أحسن عمل أدبي صدر في الأدب المصري الحديث حتى الآن». وكتاب (الأيام) هذا يقع في ثلاثة أجزاء، صدر الجزء الأول منه عام 1929م، والجزء الثاني عام 1939م، أما الجزء الثالث فألّفه الكاتب خلال رحلته إلى فرنسا، وتتضمن هذه الأجزاء الثلاثة مراحل من حياة الكاتب ونشأته، بدءاً من ولادته وطفولته في قريته بما تحمل من معاناة، إذ يحدثنا حسين في هذا الجزء عن الجهل المطبق على الريف المصري، وما فيه من عادات حسنة وسيئة في ذلك الوقت. وصولاً إلى دراسته في جامع الأزهر، وتمرده المستمر على مناهجه وشيوخه ونقده الدائم لهم. ثم التحاقه بالجامعة الأهلية، ورحلته إلى فرنسا ونيله درجتي الليسانس والدكتوراه ودبلوم الدراسات العليا، ثم العودة إلى مصر أستاذاً في الجامعة. ولم يُغفل الكاتب في سيرته هذه تناول جوانب من الحياة السياسية التي كانت يعج بها المشهد السياسي المصري في تلك الآونة إذ تعرّض في كتابه هذا إلى بعض الجوانب السياسية في مصر في عهد الإنكليز، وجاء على ذكر أحمد عرابي، وما كان من انقسام فئات الشعب إلى مجاميع، تدافع كلٌّ منها عما تؤمن به وتُغيّب المجاميع الأخرى، ولم يغفل في هذا الصدد فئة المثقفين التي كان يعتقد أنها خارج هذا التصنيف، لكنه وجدها أعتى وأمرّ من فئات الشعب الأخرى. وقد سرد طه حسين ذلك كله محاولاً استخدام التحليل المنطقي في تفسير أحداث حياته، كما سرد الجانب النفسي لطفولته ومشاعره عندما أصيب بالعمى، ومقدار البؤس والمعاناة التي مرّ بهما خلال حياته، وبذلك يكون حسين قد وضع مثالاً للشباب ليهتدوا به، إذ إن من يطالع سيرته الذاتية هذه يرى بما لا يدع مجالاً للشك روح الكاتب وهي تتحدث عن الحنين إلى الطفولة السعيدة، وتدعو إلى تقديم مثال ليسير الشباب على هديه، كما تدعو إلى مراجعة الذات والتاريخ، وتقديم أنموذج على تحدي الحاضر وتجاوز صعابه.
وفي الختام يمكن القول إن كتاب (الأيام) لطه حسين لم يكن مجرد سيرة ذاتية، وإنما كان أنموذجاً تستفيد منه الأجيال القادمة، ومصدراً لدراسة حالة المجتمع المصريّ في القرن العشرين، ولعل السبب الرئيس الذي دفع طه حسين لكتابته كان تلك الضجة الكبيرة التي أحاطت بكتابه «في الشعر الجاهلي» الذي صدر عام 1926م، ممّا تسبّب في تولد مشاعر الظلم لديه، وذكّره بالمعاناة التي لاقاها في طفولته وشبابه، وقد ذكر طه حسين في مقدمة إحدى طبعات (الأيام) سنة 1954م ذلك بالقول: «إنما أمليته لأتخلص من بعض الهموم الثقال، والخواطر المحزنة».
العدد 1130 – 31-1-2023