الثورة -أديب مخزوم:
تمر الذكرى السنوية الأولى لرحيل الفنان فداء منصور، وتبقى لوحاته وجدارياته شاهدة على حيوية تجربته وأصالة موهبته، وقدرته على التحوير والتحريف والابتعاد عن الأداء التقليدي والتسجيلي والصياغات المألوفة والمطروحة والمستهلكة.
ولقد أثمرت بحوثه في رحلة حياته القصيرة، معارض ولوحات عديدة متنوعة، في مواضيعها وتقنياتها ، وبصياغات حديثة (خاصة في أعماله التي اتبع فيها حركات الدوائر والأقواس) لأنها مشحونة باللمسات العفوية، المعبرة عن صدق تعامله مع الخط واللون . ومع ذلك ظل في حيز اللغة التشكيلية الواضحة والقريبة من الجمهور، واستمر في البحث داخل جدارياته ولوحاته عن مفردات وجدانية ، مؤكداً حضور الضوء الشرقي ، والحداثة في معالجة تشكيلاته، حيث جعل الخط واللون والعناصر المختزلة ذات أبعاد جمالية وتعبيرية، نقلت الحس المباشر الذاتي والداخلي بصدق وجداني، محققاً في ذلك مقولة بول كلي ” أنا واللون واحد ” .
ولايجوز التحدث عن أعمال فداء منصور، دون الرجوع الى جدارياته البانورامية ، وخاصة جداريته ( طريق الحرير) التي أنجزها ، على جدار السفارة الصينية في دمشق (بطول خمسين مترا وارتفاع مترين) وفيها جسد آثار تدمر وسور الصين العظيم وقوافل الجمال وبعض المشاهد الأخرى، للتعبير عن عمق الصداقة التاريخية، القائمة بين سورية والصين منذ عهد زنوبيا والى اليوم ، كما تظهر بحيرة الماء، وأشجار النخيل العالية، تتخللها المرتفعات والمنخفضات الرملية، المترامية الأطراف ، ومن الناحية الفنية، نجد اللمسات العفوية ، والمساحات الواسعة، وخاصة في صياغة المساحات الخضراء المحيطة بسور الصين، في حين تظهر الدقة والتدرج اللوني في الأعمدة وتيجانها والجدران التاريخية وأحجارها، التي توحي بالقدم وبتعاقب الأزمنة، ونلمس في هذه الجدارية بعض التحولات في مسائل الدمج ما بين الواقعية والحداثة اللونية.
مجموعة لوحات متنوعة في مواضيعها المستعادة، في بعض الأحيان، من الذاكرة ومن تأملاته لمشاهد قادمة من البيئة الساحلية التي ينتمي إليها. وفي مراحله الأخيرة، قدم عبر سلسلة معارض فردية، ثمرة وخلاصة تجربته الدائرية، ضمن هاجس اختصار الموضوع وتبسيطه وإعادة صياغته بحركة خطوطه المرنة والمنسابة والرشيقة، والتي اكتسبها خلال ممارسته للخط العربي الديواني، وذلك لإيجاد حلول حديثة للتأليف أو للتكوين الباحث عن ملامح لمناخ تعبيري، لا يتبلور فقط عبر الحركات والالتفافات الدائرية واللمسات اللونية العفوية التي تشغل المساحة فحسب، وإنما عبر التأكيد على تنويعات الموضوع الواحد ، الذي قدمه بحساسيات ومناخات مختلفة، باحثاً عن تغييرات في المعالجة للوصول إلى جمالية الإيقاعات اللونية الكامنة في موسيقا اللوحة وما يتداخل فيها من تموجات شاعرية.
والشعور بضرورة الذهاب أبعد من الإشارات الواقعية للمشهد، دفعه في اتجاه تعبيري حديث ومعاصر، بعد مرحلة أكاديمية وواقعية وانطباعية، أكدت تفوقه في تجسيد العناصر والأشكال والمشاهد، ولو كان هدفه إرضاء المشاهد العادي، وغير المطلع على تاريخ تطور الفن الحديث والمعاصر، كان ظل في إطار الرسم الواقعي الذي يتقنه، والذي كان يعود اليه بين الحين والآخر، ويشكل مدخلاً أساسياً لصياغة لوحته الفنية الحديثة، التي فيها نفحات واقعية، رغم حداثتها، فلون التين وكأس الشاي وغيرهما أخذ في إحدى لوحاته اللون الطبيعي ، وهذا يعني أنه استفاد في هذه اللوحات من موهبته وثمرة تفوقه في الرسم الأكاديمي، خلال دراسته في كلية الفنون الجميلة، وحيازته على أعلى الدرجات.
وفداء منصور فنان ملتزم، وكان يشارك بالمناسبات الوطنية ، ولقد فاز بجائزة معرض تحية لشهداء قوى الأمن الداخلي، لسنتين متتاليتين، كما حصل على المركز الأول في معرض مكافحة المخدرات 2018،والى جانب معارضه الفردية، له مشاركات عديدة في معارض جماعية رسمية وخاصة . ودخلت بعض لوحاته ضمن مقتنيات رسمية وخاصة في الداخل والخارج . وإحساسه الوطني المتواصل، يظهر بوضوح في العديد من لوحاته، ومن ضمنها لوحة جسد فيها فرح الطفولة والمراجيح ، بينما تظهر طفلة تلعب بثلاثة بالونات ترمز بألوانها إلى العلم السوري، ونلاحظ العفوية والتبسيط في معالجة العشب والشجر وفسحة السماء، التي تحولت الى ضربات عريضة متلاحقة. ولقد شكلت لوحته ( فتاة في حقل قمح ) مفاجأة لي بقدرته على ملاحقة التفاصيل ، في تجسيد سنابل القمح ، علاوة على قدرته في تجسيد الجمال الأنثوي، بالشعر الطويل المنساب جمالية وحيوية.