تحمي حقوق المستثمرين وتخلق بيئة استثماريّة جاذبة.. دور الحوكمة في تحوّلنا إلى اقتصاد السّوق التّنافسي
تحقيق – هلال عون:
يتطلّب الانتقال إلى اقتصاد سوق تنافسيٍّ في سوريا إصلاحات جوهرية في مجال الحوكمة، بدءاً من تحديث القوانين، مروراً بإرساء مبادئ الشفافية، وصولاً إلى مكافحة الفساد بجديّة.
وهذا يعني أنّ المرحلة القادمة تتطلب جهوداً مشتركة من الحكومة، والقطاع الخاص والمجتمع المدني لضمان أن يكون التحوّل الاقتصادي في صالح الجميع، وليس لمصلحة فئة معينة فقط.
نتابع في هذا التحقيق مجموعة من آراء الخبراء حول مفهوم الحوكمة في الإدارة والاقتصاد:
إحصاءات
تشير الإحصاءات إلى أن 60 في المئة من الاستثمارات في الدول الناشئة تتأثر مباشرة بمستوى الحوكمة والشفافية، هذا يعني أنّ تنفيذ إصلاحات حقيقية في سوريا يمكن أن يساعد في استعادة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، مما ينعكس إيجاباً على معدلات النمو والتوظيف.
السّوري والإدارة الرّشيدة
الصناعي الأستاذ طلال قلعه جي، يرى أنّ الصناعي السوري في المجمل يعمل بمبدأ الإدارة الرشيدة، إن كان شكل المنشأة الصناعية عائليّة أو ذات إدارة مستقلة، ويعود ذلك للفكر المتجدد والمبدع الذي يتمتع به الصناعي السّوري، والذي من خلاله استطاع أن يتجاوز كل المعوقات والعقوبات في زمن النظام البائد.
ويتابع: “أمّا بالنسبة لما نحتاجه اليوم بعد تحرير سوريا كصناعيين فهو تحقيق مبدأ الشفافية والعدالة في العمل المشترك بين الحكومة والقطاع الخاص لاستصدار التشريعات والأنظمة والقوانين الصحيحة التي ستبنى عليها آليات عمل الحوكمة في سبيل تحقيق نتائج جيدة، وكفاءة بالأداء والقدرة على اتخاذ القرارات، عندها سيكون تطبيق نظام الحوكمة الذي بني على أسس سليمة هو أحد العوامل الفاعلة في زيادة التنمية الاقتصادية في ظل الانفتاح الاقتصادي الذي تشهده سوريا على العالم وخلق بيئة استثمارية صحية قادرة على جذب الاستثمارات السورية في الخارج والعربية والعالمية.
ويرى مدير شركة الأحلام للمنتجات الغذائية الأستاذ علي الشيخ قويدر، أنّ مفهوم الحوكمة يتضمن مجموعة من الضوابط والمعايير والإجراءات التي تهدف إلى تحقيق إدارة فعالة ومنضبطة كتوزيع الأدوار والمسؤوليات بين الأطراف المعنية جميعاً.
وتحقق الحوكمة مجموعة من المبادئ كالعدل والشفافية والمساواة، وتحثّ القادة على اتخاذ القرارات الخلّاقة، كما تلعب دوراً حيوياً في تقليل الأثر البيئي للمؤسسة من خلال تبني ممارسات صديقة للبيئة.
وهي نظام عمل مهمٍّ لأنها تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز، وإعادة الثقة بأعمال الشركات، فهي تهيئ الجو لنمو وتعدد الشركات المساهمة والحد من هروب رؤوس الأموال، بل وتجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية والمحلية وتحقق التنمية المستدامة.
نحن أمام خيارين
خبير الاقتصاد والإدارة التنفيذية الدكتور عبد المعين مفتاح يرى أن الاقتصاد السوري أمام خيارين: إما تبني حوكمة رشيدة، تعيد بناء الثقة وتوفر بيئة استثمارية جاذبة، أو الوقوع في فخ الفوضى الاقتصادية، كما حدث في دول أخرى فشلت في إدارة مراحل الانتقال.
وبحسب رأيه فإن تطبيق معايير الحوكمة بشكل صحيح، يخلق لنا فرصة حقيقية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، يعيد بناء المجتمع على أسس عادلة وشفافة، ويضمن مستقبلاً أكثر استقراراً للأجيال القادمة، خاصة أن سوريا تمر اليوم بمرحلة حاسمة من تاريخها الاقتصادي، حيث انتقلت من نظام اقتصادي احتكاري مركزي إلى سوق تنافسي حرّ بعد سقوط النظام السابق.
ضمان تنفيذ الخطط
بدوره، الاستشاري في مجالَي الاقتصاد والإدارة الأستاذ محمد نعيم مسوتي شجّع إلى اعتماد الحوكمة في هذه المرحلة لأنها نظام قادر على تحديد الخطوات، والتفاصيل التي يجب تطبيقها لإدارة المنظمة، أو المؤسسة، من خلالها يتم ضمان تحقيق الخطط المحددة، وفق النتائج المتوقعة، ومنع أي مظهر من مظاهر الاستغلال أو الفساد، مشدداً على أنه “لضمان تنفيذ الحوكمة، فإن الأساس هو قناعة الأفراد القائمين على هذه المؤسسة أو المنظمة بمفهوم الحوكمة الصحيحة، وأن يكون لديهم الخبرات والمؤهلات التي تمكنهم من تنفيذها”.
الرّقابة الدّقيقة
ولم يكن رأي رجل الأعمال الأستاذ عاصم أحمد بعيداً عن رأي سابقيه، حيث شجع على اعتماد الحوكمة لأنها تضع أسس وقواعد وسياسات إدارة المؤسسات والرقابة عليها بشكل دقيق، كما أنها تحفظ حقوق أصحاب المصالح والمتعاملين بشكل عام، وتبيّن مسؤوليات وواجبات كل طرف.
ويرى أنّ الحوكمة الرشيدة، التي تعتمد على الشفافية والمساءلة، تعدّ من الأدوات الأساسية لضمان نجاح تحوّل سوريا إلى اقتصاد السّوق الحرّ وتحقيق تنمية مستدامة.
اقتصاد السوق
ويرى أ. عاصم أحمد أيضاً أن الاقتصاد السوري المركزي السابق واجه تحدياً جوهرياً في كيفية إدارة الانتقال إلى سوق حر دون التسبب في الفوضى أو الاحتكار، مبيناً أن “التحول إلى اقتصاد السوق لا يعني فقط تقليص دور الدولة، بل يتطلب وضع قواعد واضحة تحكم العلاقة بين الدولة، القطاع الخاص، والمستثمرين لضمان الشفافية والعدالة”.
ولفت إلى تجارب دول أخرى، مثل دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وإن الحوكمة الجيدة ساعدت في زيادة الاستثمارات الأجنبية بنسبة 35 في المئة خلال خمس سنوات من الإصلاحات الاقتصادية.
قواعد توفِّرها الحوكمة
وبالعودة إلى الخبير الاقتصادي ومستشار الإدارة التنفيذية د. عبد المعين مفتاح، فإنه يرى أن “الاقتصادات الناجحة تعتمد على قواعد تنظم إدارة الشركات والمؤسسات العامة والخاصة، وهو ما توفّره الحوكمة، مبيناً أن “الحوكمة تعزز الشفافية وتحمي حقوق المستثمرين، وتحدّ من الفساد، ما يخلق بيئة استثمارية جاذبة”.
تجارب عالمية ناجحة
ويدعو د. مفتاح للاستفادة من تجارب دول مثل سنغافورة، التي تحولت من اقتصاد ضعيف إلى أحد أقوى اقتصادات العالم بفضل الحوكمة الرشيدة، وقد ساعدت هذه الإصلاحات في تحقيق معدل نمو سنوي تجاوز 7% لعدة عقود.
أما في بولندا والتشيك، فقد أدى تطبيق معايير الحوكمة بعد تحرير الأسواق إلى جذب استثمارات مباشرة بقيمة 100 مليار دولار خلال عقد، ما أدى إلى تحسين مستويات المعيشة وزيادة الناتج المحلي الإجمالي للفرد.
في السياق السوري، لكن د. مفتاح يشدد على أن تحقيق هذه الأهداف في سوريا لن يكون سهلاً، فهناك عقبات كبيرة، مثل ضعف البنية التحتية، انتشار الفساد، وغياب الاستقرار السياسي، ويؤكد على أن “الخطوة الأولى لنجاح الحوكمة تكمن في بناء إطار قانوني قوي يضمن المساءلة والشفافية”.
كما أنه “يجب إنشاء مؤسسات مستقلة لمراقبة الأداء الحكومي، وفرض قوانين صارمة لمكافحة الفساد، خاصة في العقود الحكومية والصفقات الكبرى.
الخصخصة وضبط الأسواق
يرى بعض الخبراء أن خصخصة بعض الشركات الحكومية قد يكون حلاً لتحسين الكفاءة والإنتاجية، ولكن يجب أن تتم هذه العملية بشفافية لضمان عدم استحواذ قلة على مقدرات الدولة.
وفي هذا السياق يؤكد د مفتاح “أن أيّ خصخصة يجب أن تتم وفق آليات واضحة للمساءلة، لمنع تحول الاقتصاد إلى بيئة احتكارية”، فقد أظهرت التجارب العالمية أن الخصخصة غير المنضبطة قد تؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة، ما يزيد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
إشارات محلية إيجابية
وبالعودة إلى الأستاذ نعيم مسوتي فإنه رغم التحديات، يرى أن هناك مؤشرات على نجاح بعض الشركات السورية الناشئة في تبني ممارسات الحوكمة، ما ساعدها على جذب استثمارات محلية وأجنبية، ففي قطاع التكنولوجيا، على سبيل المثال، تمكنت شركات من تطبيق استراتيجيات شفافة أدت إلى زيادة قاعدة عملائها بنسبة 50 في المئة خلال ثلاث سنوات، ما يعكس إمكانيات النمو إذا توافرت بيئة مناسبة.
الخطوات المستقبلية
وأخيراً، يرى د. مفتاح أنه- لضمان نجاح التحول الاقتصادي- يجب العمل على عدة محاور، أبرزها:
أولاً: إعادة بناء الثقة بين الدولة والقطاع الخاص عبر قوانين تحمي المستثمرين والعاملين.
ثانياً: تعزيز الشفافية المالية عبر إلزام الشركات بنشر تقاريرها المالية وفق معايير دولية.
ثالثاً: محاربة الفساد بآليات فعالة، تشمل هيئات مستقلة للتحقيق في التجاوزات المالية.
رابعاً:تطوير الموارد البشرية عبر برامج تدريبية متخصصة في إدارة الشركات وتطبيق معايير الحوكمة.