الملحق الثقافي – أحمد علي هلال:
هل للحنين لون، وكيف ستدركه الحواس المشغولة بتجلي الجميل؟!.
يعود الجواب -هنا- ليعلل هذا النزوع حد صوفية الفكرة وبذخ إشراقاتها داخل النص ومكوناته وجيناته، وسلالات أرواحه الطليقة، ولا سيما إذا اجتمع لفظان مركبان، «ألوان الحنين»، لشاعر يختبر مسافته للغة، ويختبر باللغة مسافته للشذا وللون، وليفتح في أفق المجاز، لذاكرة -التلقي- إذ ليس للحنين لون بعينه، وهذا من أفعال التطييف، والتسريد ما بين الرؤيا، والرؤية من أكوان مرئية يستعيدها الشاعر المغترب د.أنيس رزوق، لكنه المسكون بشغف يوطنه في نصوصه المفتوحة، على ما يختمر في ذاكرته ووجده ووجداه، فهل نشتق للحنين إيقاعاً جديداً، معاصراً لينتظم بتكوينه الدلالي، وليوقع ألق تجربة أولى، ستتأسس في راهنيتها على ممكنات جمالية، تقصي بلاغة الشكل، سعياً لإحراز بلاغة داخلية، موشحة ومطرزة بخفق الأرواح وهي تنادد قرابات الحبر والدم، فيما يتراءى من معجمه اللغوي، أي مفردات الرهافة المجدولة النقاء، بعفويتها المركبة وعمقها بآن: فمن نصه نقتطف: «يجول الحنين في الأحناء/ يبحث عن مسافة في/ الذاكرة المباعة/ محملاً بألوان اللوعة وعطر النقاء»، وفي مساءلة الصمت يجهر الحنين، كيف ينمو اللقاء/ عرى شرفات الغربة/ أو كيف يتحول -الحنين- إلى عشق/ إلى رماد/ إلى تاريخ بلا ذاكرة/ إلى لغات روت حروفها/ ظمأ الزفرات الحالمة».
هذا التسريد للحنين سيأتلف بنظائره المشعة/ الشوق معللاً بجمر الذكريات وبزخم الخيال المتوقد حدَّ شفافية الندى، ليغتسل في خيوط الشمس، يتخفف الشاعر هنا من تقفية لا لزوم لها، لينزاح للمعنى الطليق الذي يوقع بالحنين وحده/ الحنين سيتبدى كثيمة لا شفاء منها، في غمرة هذا الاحتدام ما بين الحدوس والحواس، إذ يتساءل الشاعر د.أنيس رزوق: «هل يتلاشى الحنين ويخبو جمرة في تلافيف الذاكرة، وهل يتقد وينتعش من جديد؟».
هكذا سينتقل الشاعر عبر نصوصه (الستين) من المجرد إلى المحسوس، إلى الأكثر حياة في دورة حياة اللغة بوصفها كائناً يتنفسنا ونتنفسه، ومن الفضاء العمومي إلى خصوصية دالة تعللها شعرية الوفاء، يدلل على ذلك نصوصه إلى الأم والأب والصديقة القديمة/الزوجة، لتبدو مجازات الحنين ملتحمة بوطن الشاعر أكثر من ترجيع عاطفي وليتعدى كل ذلك إلى الأفق الفكري والارتباط بالوطن عضوياً وروحياً، سكناً روحياً أبداً، ذا كثافة دلالية في فضاء الحنين وتشكيلاته الإنسانية، المتصلة بثقافة الروح والقلب والكلمة سدى ولحمة، كما في نصه «شآم النور» يقول الشاعر: «كلما نُطق اسمها/ وردد الشوق/ دمع اللقاء/ وبوح الأسرار»، ولعل في هذا القول إمساك بجدائل الضوء، وانبعاث للغناء الشجي، بنزوع غنائي متلبس بالحنين، نشيداً متواتر الخفق، ولا عجب في هذا النص الذي يسبقه نصه إلى أمه: «تنثرين نور الله على الأرض/ وبالقلب تشرقين/ نسمة عليلة/ تخفض لنا جناحيها/ وتحملنا إلى أقاصي الحنين».
نصوص موزعة بقدر محسوب على ما يخص الشاعر وليبدو محيط -هذه النصوص- الدلالي مشغولاً بتراتيل الحنين التي تبث إشعاعاتها خيالاً رهيفاً غير متكلف، لتتخلق شاعرية مبدع مطبوع، يبث لواعج حنينه في صور متواترة تحمل غير غرض شعري… هي تداعيات ذات أرادت أن تلتقط ما هو جوهري: كثافة الروح قلقها وحزنها فرحها وغبطتها بمتواليات تتواشج في مراياه، يموسقها بوح ينجو من فتنة الإبهام، ويحفر في الذاكرة تواقيعه وومضاته البارقة، بل أولى ارتطاماته مع اللغة، اللغة الصديقة الممشوقة الظل، كما وجوه وسير من عرفهم، فاحترف بقائهم ذاكرة وذكرى محتفياً بجمال مكتفٍ بطرائده الأثيرة: «كومضة جمال تشرقين/ يخفق الفؤاد… بجنون/ كبريق تشرقين/ فينبت في عيني/ ألف حريق… أعدو خلفك كنحل/ يناجي أحجيات المعاني/ بهمس الجفون/ ويجني رحيق الأماني/ بشهد عشق لقلب غريق».
الشاعر هو ابن لحظته الشعرية بصيروراتها المتنامية والمتراكمة في طبقات الذاكرة، ولا سيما حينما يجهر بالقول: «أنا ابن اللحظة/ الذي نام على أشواكها/ ووشم أيامه/ بدم الجهات/ التي خانتني/ كلما صغت».
ألوان الحنين صورة تجربة باسمها كما جهر بذلك الروائي أرسكين كالدويل، وتجربة الشاعر د.أنيس رزوق هي من ترهص أكثر باختماراتها وإنتاجها للمعنى، بعيداً عن ثنائية المؤتلف والمختلف، فهي أكثر من بذرة ضوء تشي بميلاد غير نهار عالٍ، فالكلمة وطن الشاعر، وطن روحه ولغته السامية، هي تجربة أولى إذن تلتمع فيها قماشته اللغوية بأمثولات الذاكرة، لتؤسس وعياً بالجمال، صعوداً لاختبار قيم التجريب، وانعطافات الدلالة لأكوان شعرية قادمة، بزخم تعبير الصورة/ الصورة المفكرة كما ضراوة الخيال، وفيما تبثه شعرية هذه الحساسية الأنيقة في ألوان الحنين وما سيليها.
الكتاب (ألوان الحنين) د.أنيس رزوق
العدد 1137 – 21/3/2023
السابق