هذه الجملة تحتمل تبديل مواضع العاصمتين فيها ويبقى المضمون صحيحاً، فما بين دمشق والقاهرة تاريخ واحد مترابط لا ينفصل عن بعضه، يتبادل التأثير ويمضي باتجاه واحد، ومهما تباعدت الرؤى في بعض الفترات القصيرة فإنها تعود للتلاقي في ظل وجود رباط أبدي لا ينقطع، لكنه يضعف أحياناً.
ومن هنا فإن لقاء وزيري خارجية البلدين قوبل بترحاب كبير عز نظيره في البلدين اللذين لم يغلقا سفارتيهما وإن أبقيا التمثيل الدبلوماسي على مستوى القائم بالأعمال، ففي القاهرة لم يكن الوزير سامح شكري هو من استقبل الوزير فيصل المقداد وحده ، بل كانت مصر العربية بكل أبنائها تستقبل سورية كلها بكل ما تمثل من ترابط وتاريخ طويل في جميع المجالات.
صحيح أن أكذوبة الربيع العربي تركت آثاراً سلبية على علاقة البلدين على مستوى العلاقات السياسية من حيث الشكل، لكن المضمون بقي يربط العلاقة برباط التعاون والتنسيق، فقد استمر تبادل الرسائل عبر السفارتين أو من خلال اللقاءات الأمنية التي يتم تسريب معلومات عقدها لوسائل الإعلام في رسالة مبدئية للوجدان الشعبي في البلدين بأن الخلافات السياسية الظاهرية ليست سوى زوبعة صغيرة في فنجان صغير لا تلبث أن تهدأ وهي لا تترك أي تأثير يذكر، وهكذا كانت تلك اللقاءات تبحث في المواقف التي تناسب مصالح البلدين في ظل الظروف الصعبة الناجمة عن حال الفوضى والتدخلات السياسية التي أفرزتها سياسات الإرهاب على المنطقة العربية كلها، فالإرهاب الذي طال سورية بأبشع صوره هو ذاته الإرهاب الذي طال المنطقة العربية ومنها مصر نفسها التي تم اغتيال خيرة أبنائها من ضباط الجيش والشرطة والأمن العام ممن تصدوا للمشروع الإرهابي وما كان يخطط لإقامة إمارات إرهابية في سيناء وغيرها، فكان نقل التجربة في مواجهة ذلك الخطر واحداً من عمليات التعاون والتنسيق التي لم تتوقف يوماً وفي أكثر الظروف صعوبة، الأمر الذي يجعل استعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية أمراً سهلاً في ظل مستجدات ومتغيرات إقليمية ودولية كبيرة تتجه كلها للبحث عن مخارج وحلول للأزمات الدولية والإقليمية الناشئة بسبب المواقف المتعلقة بموضوع الإرهاب، وهو ما وصل إلى احتمالات كبيرة بحصول حرب كبيرة في الإقليم لا تستثني أحداً، فجاءت المتغيرات الحالية لتخفف من هذا الاحتمال وتدفع باتجاه البحث عن حلول تجنب المنطقة احتمالات الحرب وإن كانت لا تنفيها أبداً .
فبعد اثنتي عشرة سنة من الحرب الإرهابية على سورية، بما رافقها من دمار وخراب وحصار وعقوبات اقتصادية وتهديدات أميركية لم تتوقف يوماً حافظت سورية على قوتها وتماسكها كدولة قادرة على المواجهة والثبات والتصدي لكل أشكال العدوان والحفاظ على ثوابت علاقاتها الدولية أيضاً بما يؤكد أحقيتها في الوصف كدولة ذات مصداقية وثقة والتزام، وبالتالي لم تضعف أمام تلك الظروف العالمية الصعبة ورسخت مواقفها حضوراً في السياسات الدولية وفي اللقاءات والمؤتمرات والقمم التي كانت تبحث الشأن السوري، فكانت العروض التركية مقدمة لمتغيرات إقليمية، لم تأت بنتائج حتى الآن، لكنها تحمل مؤشرات قوية لتراجع في سياسة تركيا تجاه سورية وشعبها بعد سنوات من العدوان والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية، وتزامن هذا التراجع مع تحسن في مستوى العلاقات التركية المصرية بعد سنوات من العداء نتيجة دعم أنقرة لسياسات الإخوان واستضافة قياداتهم في استنبول وغيرها من المدن التركية.
وكان الحدث الأبرز في تلك المتغيرات ذلك الاتفاق التاريخي ما بين الرياض وطهران برعاية صينية ليفتح الباب على احتمالات إيجابية في حدوث مصالحات تاريخية تبعد شبح الحروب بين شعوب المنطقة الأصليين وتخرج الكيان الصهيوني المؤقت من المعادلة الإقليمية.
إن أهمية اللقاء ما بين سورية ومصر يكمن في التقاط اللحظة التاريخية التي تعيد البلدين للقيام بدور واحد موحد مشترك في تجميع ما تفتت وتباعد من علاقات العرب، ويبعد تأثير العدوان الخارجي، ويستعيد الموقف العربي المشترك في مواجهة التحديات الصعبة التي تواجه المنطقة العربية كلها.

السابق
التالي