الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:
لا أحد ينكر أن دخول الأدب بكافة أنواعه إلى المدونات وشبكات التواصل الاجتماعية على مدى العشرين عاماً الماضية، وربما أكثر قد أسهم تدريجياً بدمقرطة الأدب وجعله في متناول الجميع.. كما وانشق عن انتقاله إلى جدران هذا العالم الأزرق ما يعرف بالأدب المشارك.. والذي انتشر على نطاق واسع في الغرب.. ولدينا هنا تجربة الكاتب الفرنسي فرانسوا بون- على سبيل المثال- في كتابه بعنوان ( الكتاب الثالث ) وورشته التي انشأها في الكتابة، مع قرائه ومتابعيه وشكلت بالتالي منصته في البحث والإبداع.. وقد أصدرت فيما بعد دار نشر L>;Arbre vengeur ثلاثة كتب تباعاً، نقلاً حرفياً عن تلك المنشورات الإلكترونية.. كذلك مدونة الكاتب اريك شوفيلار والتي دعا إلى المشاركة فيها عبر ما اسماه الكتابة التخيلية ومن ثم أطلق ( تويتر الأدب)- twittérature- وحث فيها على الكتابة التلقائية والذاتية.. بيد أنه تراجعت المشاركة في تلك المبادرتين سواء أكان من ناحية الشكل الذي فرضه شوفيلار، والذي يتيح المشاركة لا التعليق أو الدخول المدفوع الثمن للكتاب الثالث.
هذا يقودنا إلى القول أن تلك المنصات الافتراضية، والتي باتت منابر مهمة للكتابة الأدبية ونشر الأدب بشكل ديمقراطي، سواء أكان من ناحية اختيار شكل الكتابة وكذلك مكان النشر، أثرت المشهد الثقافي بوجبات ثقافية متنوعة مختلفة، مفاجئة ومدهشة تتضافر فيها الصورة والكلمة والصوت والحركة.. ومعظم المدونات أو المنشورات على مساحات هذا الأزرق انتهت ضمن دفتي كتاب لدى دار نشر، وخلقت ما ندعوه حالياً الكتابة التفاعية.. وهي طريقة ليست مستحدثة بل قديمة قدم المجلات والصحف، حيث تعيدنا الذاكرة إلى أيام كانت تقوم تلك بنشر روايات على شكل سلسلة، ولكن مع التكنولوجيا سلكت دروبًا أسرع وأكثر انتشارًا.. ولينشأ لدينا ما يعرف بظاهرة ( أدب البوست) والنشر في قطع نصية على الصفحات الشخصية، مستفيدين من تفاعل جمهور القراء لانتقاء ما يصلح من موادهم للنشر لاحقاً ضمن « كتاب» مطبوع أو حتى الاستفادة من الرؤية النقدية لهذا الجمهور على ندرتها.. لأن هذه النوافذ العصرية قد ألغت الفواصل تماماً بين المبدع والمتلقي.. وبالطبع فإن القارىء والمتابع الحقيقي- وهم كثر لكل مستويات الكتابة، يفوق بكثير قراء الكتاب المطبوع بسبب سهولة الوصول إلى المواقع ومجانيتها وانتشارها- سوف يتمكن من تمييز الثمين عن الغث مما تقدمه تلك النوافذ ويُنشر عليها.
ويمكننا تشبيه هذه التكنولوجيا التي أتاحت للأدباء نشر أعمالهم، ومنها تلك التي سبق ورفضت نشرها دور نشر، ونذكر في هذا الصدد الكاتب الأميركي مات ستيوارت، الذي نشر كتابه على شكل مدونات على موقع تويتر، ولقي متابعة واسعة من قبل القراء، بعد أن رفضت دور النشر نشره، بسوق عكاظ جديد، يعرضون فيها نتاجاتهم الفكرية.. وحتى باتت الصحف والمجلات الالكترونية أو الورقية أو المواقع الثقافية تأخذ من الصفحات الشخصية وتنشر على صفحاتها.. والأهم أنها لعبت دوراً إيجابياً في تحرير المواهب الشابة من سلطة النقاد.. واتخذوا من تلك المساحة منطلقاً للكتابة والنشر المباشرين.. كما وأبعدت كل أشكال الرقابة المسبقة على النشر في حلته الإلكترونية.. ووصلت الإبداعات الجديدة إلى فضاءات تتجاوز المكان والزمان..لا سيما وقد أخذت مواقع التواصل الاجتماعي حيزاً كبيراً من حياتنا وغيرت من عادات الناس اليومية.. وأعطت هذه المساحات الافتراضية الجرأة الأكبر لفضح النفس والإجابة عن سؤال مارك زوكربيرغ الشهير: بماذا تفكر؟ تلك الحرية التي أشاد بها بعض الأدباء،، وأطلقت المواهب دون وصاية أو رقابة، هي نفسها الحرية التي جعلت من بعض «الطنطنات» الفارغة ، والكتابات المتواضعة الركيكة بشكل مؤسف، نصاً أدبياً يسعى خلف قرائه، وينشأ معه عالماً أدبياً مرتبطاً بالوقت والمكان ويتماشى مع الواقع.. حتى صار عادياً عبور جسور في الكتابة لم يكن أحد لديه الجرأة في عبورها في الحياة العادية.. نظراً لأن غياب المعايير أتاح لأي كان أن يكتب ما يشاء وينشر ما يشاء، ويسمي نفسه شاعراً وأديباً وقاصاً وناقداً…إلخ. ولكن وللأسف أخذ التشجيع لهؤلاء في عالم السوشال ميديا طابع النجومية الزائفة، ورسخ بعقولهم التسلق السريع لشجرة الأدب.. والجانب الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا أن المؤلف بات أقرب للجمهور من أي وقت مضى، وانهار البرج العاجي الذي كان يفصله عنهم..ولهذا القرب تحقق شرط إنساني لا ننكره، والمتعلق بإنصات الأديب أو الشاعر لنبض المجتمع، وتوظيف تكنولوجيا الاتصال لرصد تفاصيل من الحياة اليومية تغذي ملكته الإبداعية، وخاصة أن للقرب تكلفته كذلك، لا سيما حين صار مؤهلاً للمكانة الأدبية واليومية وقدراته على توصيل معلوماته.
والرواية في هذه الحال هي التي اندمجت في عالم وسائل التواصل الاجتماعي الجديد، وعلت الأصوات التي تنذر بموت الرواية، وحتمية قدوم اليوم الذي ستفقد فيه هويتها أو شكلها الخاص ولا تكون هناك رواية.. وبالتوازي مع التنبؤ بموت الرواية سيرافقها ( موت النقد ) أي غياب النقد المدرسي أو حتى النقد الصحفي ونقد المتخصصين عموماً ليحل محله نقد القراء وردود أفعالهم وقياس استنتجاتهم وأثر القراءة عليهم.. هذا النقد الذي وللأسف تطغى عليه المجاملات المفرطة، والنجومية الافتراضية والشهرة التي تجعل عملاً ما ليس ذا أهمية يحظى بالمتابعة والإشادة، وتزداد مؤشرات قبوله كلما ساير المعجبين ولو على حساب المنطق والتفكير السليم، أوعلى حساب الحقيقة والواقع.. ولذلك قال الناقد الأميركي رونان ماكدونالد بموت النقد كما قال غيره بموت الرواية، والحقيقة أن آثار هذا النشر على السوشل ميديا في النقد بشكل خاص تبدو أكثر وضوحاً ويمكن أن نلمسها في الأدب الغربي على وجه الخصوص، عبر عدد من المواقع الكثيرة على غرار(غودريدز- Good Reads)- على سبيل المثال أو عروض الروايات التي لها صفحات محددة على فيسبوك أو غيرها الكثير والكثير التي يمكن أن نقول إنها بدأت تدريجياً تحل محل النقد الأدبي.
العدد 1142 – 2-5-2023