لميس عودة:
الصراع العسكري والاقتتال الذي تدور رحاه حالياً في السودان، هو مخطط استعماري قديم متجدد، فإدخال هذا البلد ذي الأهمية الجيوسياسية الاقتصادية في دوامة حروب وعدم استقرار، تنذر بالأسوأ، وترسم سيناريوهات تمزيق جديدة يعدها الغرب والكيان الصهيوني، ويدفع أثمانها أبناء السودان من أرواحهم، ونهب ثرواتهم، ويجب أن يحتكم طرفا النزاع إلى العقل ويغلبان لغة الحوار على منطق النزاع، فلا رابح في حرب تقود السودان إلى التمزيق والتقسيم وتفتح بوابات التدخل الخارجي المغرض في شؤونه الداخلية.
بعد أكثر من 5 عقود من نيل السودان الاستقلال، لا يزال يشهد حروباً متعددة، وإن تباين طابعها بين قبلي وعسكري وانفصالي، إلا أن مؤداها واحد، كان ولم يزل محاولة تمزيق السودان وإدخاله في متاهات الفوضى التدميرية، وتفتيت وحدته كمخططات وضعتها بريطانيا منذ عقود واشتغلت على تأجيج الصراعات الداخلية حتى يبقى مفككاً ضعيفاً تهز أركان استقراره عواصف الاقتتال والانقسامات، ما يسهل نهب ثرواته.
وهذا ما حصل في 9 تموز2011 بإعلان تقسيمه إلى دولتين شمالية وجنوبية وانفصال جنوب السودان الذي سعت لتكريسه الولايات المتحدة، وكان الشيطان الإسرائيلي حاضراً في كل تفاصيل مشهد الانفصال والسلخ.
فللسودان كما تقول صحيفة “نيويورك تايمز” موقع استراتيجي غنيّ بالموارد الطبيعية، وهذا التوصيف يختصر أهداف واشنطن ودول الغرب الاستعماري التي تطمع كلها للفوز بقطعة منه والسيطرة عليه.
– مفخخات الفتن والتمزيق بريطانية..
لعبت بريطانيا دوراً ممنهجاً بتوسيع الخلافات بين الشمال والجنوب وتأجيج الاحتقان والتفرقة وتهميش الجنوب السوداني في قوانينها، كونها كانت تحتل السودان لتزكية نار الاقتتال والتمرد، وإيجاد أرضية مواتية لنثر بذور التقسيم، فالسياسات الاستعمارية تتبع قاعدة “فرق تسد” باستثمار الاختلافات، ففرقت في تعاملاتها بين الجنوب والشمال في قضايا عدة أهمها التعليم، وبعد جلاء قوات الاحتلال البريطاني وانفصال السودان عن مصر، طالب الجنوبيون بنظام فيدرالي داخل الدولة السودانية الموحدة، ولكن الحكومة السودانية حينها رفضت ذلك معتبرة أن ذلك سيقود إلى انفصال الجنوب السوداني كخطوة هدامة.
في عام 1955 تمرد بعض أعضاء الفرقة الجنوبية من الجيش السوداني بإيعاز من بريطانيا ضد الشمال وفي عام 1958، ثم طالبت الأحزاب الجنوبية وعلى رأسهم «حزب سانو» بانفصال الجنوب، كما تم تشكيل حركة أنانيا التي بدأت عملياتها العسكرية عام 1963، وبعد الشد والجذب.. تم بحث تسوية سلمية للصراع، حيث عقد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965.
وفي عام 1972 تم توقيع اتفاقية أديس أبابا والتي أعطت للإقليم الحكم الذاتي في إطار السودان الموحد، إلا أنه في عام 1983 أصدر الرئيس جعفر نميري عدة قرارات أطاحت بالاتفاق منها تقسيم الإقليم إلى ثلاثة أقاليم ونقل الكتيبة (105) وبعض الجنود إلى الشمال، وكلّفت الحكومة العقيد جون قرنق بمهمة عسكرية في الجنوب، إلا أنه أعلن انضمامه إلى المتمردين مؤسساً “الحركة الشعبية لتحرير السودان” ولها جناح عسكري، وبدأت الأحداث بعد ذلك تأخذ منحى تصاعدياً، فبعد توقيع اتفاق عام 1988 بين قرنق ومحمد عثمان الميرغني في أديس أبابا لم ينفذ هذا الاتفاق بعد انقلاب تموز 1989 بقيادة عمر البشير.
وتوالت الأحداث لسنوات بعد ذاك من خلال إبرام اتفاقات ونقضها، إلى أن تم توقيع اتفاق إطاري يسمى «بروتوكول ماشاكوس» في تموز 2005 الذي أعطى للجنوب حكماً ذاتياً لفترة انتقالية مدتها 6 سنوات، وحق تقرير المصير ومنح فرصة للجنوبيين للتفكير في الانفصال والبدء ببناء مؤسسات حكم انتقالي كنوع من الضمانات، وفي 9 كانون الثاني 2005 وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا نصت بنوده على حق تقرير المصير للجنوب عام 2011، وإجراء انتخابات عامة على كافة المستويات في مدة لا تتجاوز عام 2009، وتقاسم السلطة بين الشمال والجنوب، وكذلك تقاسم الثروة، وإدارة المناطق المهمشة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى الترتيبات الأمنية، من ثم تم الاستفتاء على تقرير المصير في 9 كانون الثاني 2011 حيث صوّت الجنوبيون للانفصال.
– الأصابع الإسرائيلية..
لأن للسودان موقعاً جيوسياسياً عربياً وإفريقياً مهماً وثروات ومقدرات ضخمة، استحوذ على أطماع الكيان الإسرائيلي، فعمل على استغلال المشاكل الإثنية فيه لتكريس الفوضى ومحاصرة الوطن العربي وزعزعة استقراره وتهديد أمن دوله، وقد نجحت المخططات الإسرائيلية والاستعمارية الخبيثة بتقسيم السودان إلى شمال وجنوب.
فمنذ بداية استقلال السودان في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، عمل الكيان الإسرائيلي على عدم السماح للسودان أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأن موارده الطبيعية إن استمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب، وفي ضوء هذه التقديرات عمدت إلى مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتى يكون حاصل هذه الأزمات مسائل مستعصية يصعب معالجتها فيما بعد.
الدور التخريبي الذي اضطلع به هذا الكيان في السودان كشفته وثائق إسرائيلية بينت حجم التدخل الذي قام به “الموساد” لتقسيم السودان و دوره في تسليح جيش “جنوب السودان” إذ تشير تلك الوثائق إلى أن الجنوبيين بدؤوا بطلب المساعدة من كيان الاحتلال منذ النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، وأنه في عهد غولدا مائير تقرر تقديم كل الدعم لهم إلى حين تحقيق انفصالهم.
ولتنفيذ هذه المآرب قامت “إسرائيل” بتدريب وتسليح المجموعات المتمردة وبعض المليشيات ما ساهم في توسيع دور جيش المتمردين ولاحقا جيش “جنوب السودان” لتقوم الدولة الوليدة بدفع الفاتورة نظراً للتغلغل الإسرائيلي في هذه المنطقة الحيوية من إفريقيا، ليس فقط لكونها خزاناً نفطياً لا يستهان بل كونها ركناً إفريقياً يشكل مرتكزاً لتحركاتها وجاسوسيتها ومنصة لإطلاق سهام الاستهداف الإسرائيلي نحو المناطق المستهدفة في مصر وشمال السودان المنطقة العربية.