عزة شتيوي:
تبحث “إسرائيل” اليوم عن بدائل لخساراتها في المنطقة وخاصة في سورية، لتحاول أن تمرر في السودان ما عجزت عنه من مخططات التقسيم وهواجس التفتيت التي تسعى إليها منذ أن غرس هذا الكيان خنجراً غربياً في صدر الأمة العربية.
ولأنها أي “إسرائيل” التي كانت بصماتها واضحة في انفصال جنوب السودان عن باقي جسد هذا البلد ليس غريباً أن نرى أصابعها مجدداً تشعل نيران السودان مرة أخرى وإن حاول الكيان أن يتلطى بثوب (حمامة سلام) للوساطة بين أطراف النزاع، فهذه المسرحية الهزلية تفضح أكثر من أن تستر الدور الإسرائيلي الذي يسعى لضرب كل الإنجازات ومحاولات الاستقرار في المنطقة خاصة بعد المصالحة السعودية الإيرانية ومد السجاد الدبلوماسي بين دمشق والدول العربية.
بعد اشتعال الأحداث في السودان قفزت “إسرائيل” إلى المشهد علناً وأعلنت فضيحة الوساطة ليقع البعض في شباك تخمين أن الكيان الصهيوني خائف وقلق على تأخير تمرير التطبيع رسمياً ما جعل نتنياهو يتدخل سريعاً، لكن كواليس الأحداث والتجارب التاريخية تؤكد أن “إسرائيل” تستثمر وتجني أرباحاً من الخراب أكثر من الصفقات والاتفاقيات، ويهمها تقسيم السودان وتفتيته خاصة في هذه المرحلة.
وبالفعل حدث ما كانت المخططات الإسرائيلية تتوقعه وتتمناه وما سعى إليه الموساد الإسرائيلي وأصابعه الأمنية المتغلغلة في هذا البلد الأكبر مساحة والأغنى بالثروات والذي طالما كانت عين الصهاينة عليه لدرجة أنه كان في حساباتهم لإنشاء كيان إسرائيلي قبل احتلال فلسطين.
التطبيع لم يكن الغاية الإسرائيلية الوحيدة في السودان، بل هناك غايات أخرى لا تقل أهمية، أهمها إفراغ هذا البلد من أي إمداد للمقاومة الفلسطينية عبر الجغرافية السودانية، خاصة أنه صاحب قمة اللاءات الثلاث التاريخية في وجه “إسرائيل”، إضافة إلى أن السودان هو البلد الجيواستراتيجي والذي تحاول “إسرائيل” من خلاله رسم دور (مستقبلي) لها في عموم القارة الأفريقية وضرب العمق العربي.
لذلك وأكثر نرى أنه منذ بداية هذه الكارثة في السودان لم تهدأ بيانات الكيان الصهيوني وتبادل الأدوار فيها بين وزارة خارجية العدو وبين الموساد، بل إن الأخير التقط المشهد وأعلنه قبل الخارجية بيوم كامل.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تدخل فيها “إسرائيل” على خطوط الأزمة السودانية ومساراتها بل كل المشهد السياسي الذي نراه منذ ٢٠١٩ حتى اللحظة كان بتخطيط إسرائيلي رتب ونسق مع بعض أطراف الأزمة الحالية وأشعل النار فيما بينها، لدرجة أن التدخل الإسرائيلي المزمن ودوره المشبوه في المشهد السوداني أقرت به واشنطن علناً بوقت ليس ببعيد في ١٧تشرين الثاني عام ٢٠٢١، حيث طلبت ممثلة واشنطن لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد حينها من وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس، “التدخل في أزمة السودان، والعودة إلى “المرحلة الانتقالية بقيادة أسمتها مدنية، وكان هذا الطلب الثاني لواشنطن من “إسرائيل” لتجميل دورها وشرعنته في التدخل في الأزمة السودانية، أما الطلب الأول فتقدم به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وقد دفع التدخل الإسرائيلي حتى بمحاولة تشكيل مجلس السيادة الانتقالي كما تشتهي تل أبيب بوزيرة الخارجية السودانية السابقة مريم الصادق المهدي في ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٠، إلى اتهام “إسرائيل” بدعم ما وصفته بالانقلاب، وقالت إن “الحكومة السودانية علمت بدور “إسرائيل” الداعم للانقلاب، رغم أنها لم تظهر في واجهة الأحداث”.
قام الدور الإسرائيلي بخباثة تجاه الخرطوم على إستراتيجية شد الأطراف ثم بترها، في مسار تقوم بنيته على تبادل الأدوار بين كل من وزارة الخارجية الإسرائيلية وجهاز “الموساد”، مستخدمة التناقضات والخلافات والصراعات بين مكونات المشهد السوداني، وقبل وقوع الاشتباكات الدائرة بشهرين تقريباً تكرر شد الأطراف ممثلاً في زيارة وزير خارجية العدو الإسرائيلي إيلي كوهين الأخيرة إلى الخرطوم التي تزامنت مع اشتداد التنافس.
ومع اشتعال فتيل الأزمة يتضح أن واحدة من أهم النتائج المتوقعة التي تسعى “إسرائيل” إليها هي أن ينتهي الاقتتال الدائر بتفكيك السودان، وهذا عين ما سعت وخططت إليه “إسرائيل” خلال دورها المشبوه الذي لعبته بعد انفصال الجنوب، وبعد أحداث دارفور أيضا التي أظهرت أصابع “إسرائيل” والتي كشفها علناً ما يسمى وزير الأمن الإسرائيلي ديختر في العام ٢٠٠٨، فالأفكار والمعلومات والمخططات التي وردت فيها تفضح هذا الدور حيث قدم ديختر استعراضاً للسياسة الخارجية (الإسرائيلية) منذ إنشاء الكيان الصهيوني في أربعينيات القرن الماضي وحتى مع بداية استقلال السودان في منتصف عقد الخمسينات، وقال في محاضرته يجب ألا يُسمح لهذا البلد رغم بعده عنا أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأن موارده إن استثمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب.
وبالإضافة إلى مشكلة الجنوب التي اعترف الوزير (الإسرائيلي) صراحة بالتدخل في صنعها وتدعم رأيه هذا دراسات عديدة واعترافات موثقة؛ بالإضافة إلى هذا يقر الوزير (الإسرائيلي) بدور الكيان الصهيوني في أزمة دارفور، ويعلن حينها رئيس وزراء “إسرائيل” قائلاً: لقد حان الوقت للتدخل في غرب السودان وبنفس الآلية والوسائل وبنفس أهداف تدخلنا في جنوب السودان”.
ويختتم الوزير (الإسرائيلي) محاضرته بقوله “السودان في ظل أوضاعه المتردية والصراعات المحتدمة في جنوبه وغربه وحتى شرقه غير قادر على التأثير بعمق في بيئته العربية والإفريقية لأنه متورط ومشتبك في صراعات ستنتهي إن عاجلاً أو آجلاً بتقسيمه إلى عدة كيانات ودول مثل يوغوسلافيا التي انقسمت إلى عدة دول.
تشكل السودان منطقة إستراتيجية بالنسبة للكيان الإسرائيلي الغاصب الذي اندفع في الآونة الأخيرة إلى التطبيع معه، كعمق استراتيجي جديد سيمكّنه من السيطرة على البحر الأحمر والتحكم بالممرات المائية في المنطقة، كما ويمكن أن تشكل ساحة جديدة لاستقطاب قواعده العسكرية وهناك الكثير الكثير الذي تريد فيه “إسرائيل” تقسيم السودان بسكين الاقتتال التي يشحذه العدو صاحب الفتنه لتفجير المنطقة مجدداً وجر الدول العربية إلى حرب أخرى ولكن هذه المرة تكون في السودان، خاصة أن “إسرائيل” ترغب في تفتيت كل دول المنطقة العربية ثم الإفريقية وتقسيمها لتكون دولة الأقليات الأولى في المنطقة لتجمعهم تحت اتحاد يسمى بـ “ولايات اتفاقات إبراهام”!.