الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
أوروبا التي يرى الكثيرون أنها مصدر ومحرك بل منجم الأفكار وصانعة المذاهب الأدبية ومطلقة الحركات الفلسفية في العالم، ما حالها اليوم في هذا المجال، هل تركت السياسة الخارجية المتوحشة أثرها على إشعاعها الفكري في العالم؟
هل مازال بريقها الإبداعي يشع على العالم، أسئلة كثيرة ليست وليدة اليوم أبداً، كان قد بدأ طرحها حتى النقاد الغربيون ومنهم الناقد الأدبي الفرنسي بول لومبار الذي عاين واقع الأدب في أوروبا، فكتب في صحيفة الفيغارو منذ فترة من الزمن: تلوث لغوي وتغييب لقامات الأدب، انقراض الكتاب الأفذاذ واختفاء المؤلفات الكبرى على امتداد القارة، فأوروبا الأدب لم تفز في الانتخابات الأخيرة ومناضلوها لن يحرقوا التماثيل الورقية في الشوارع، طبعاً لن نندهش لذلك لأن حزب الأدب لم يوجد بعد.
نحن أمام مفارقة كبيرة، فجمهورية الآداب توطدت ما بين حروب الدين والثورة الفرنسية وكانت أوروبا كلما تمزقت انعكس ذلك على ثقافتها، حتى عندما اتحدت وقام السلام وتشابهت العادات ذهب كل بلد إلى عزلته القاسية، لم يمر على أوروبا زمن كانت فيه متباعدة بهذا الشكل على صعيد الإبداع الأدبي الذي لا حدود له.
في بداية القرن العشرين عندما كان الناقد الألماني كورتيوس يشيد بأوروبا على أنها الابنة الروحية لأثينا وروما كان الحلم ما زال متاحاً أمامنا، وفي عام 1952 أعلن إيريخ أورباخ في مقال له عن أيام قادمة قاتمة بالقول: على الإنسان أن يعتاد على العيش في عالم نمطي وفي ثقافة أدبية واحدة، وعلى تراجع عدد اللغات الأدبية إلى عدد محدود إن لم نقل في واحدة، وهكذا سوف تكون أمة الأدب الواحدة قد تحققت ودمرت في آن معاً.
هذا الأدب الذي تمازجت حدوده مع العالم القديم والذي كان يراه غوته تقدماً لا عودة عنه وجد في عصر النور من خلال فولتير ومراسلاته المتعددة ما بين لندن وسان بطرسبرغ، هذا الأدب تحول إلى روايات مكتوبة بريشة مدام جيرمان دوستال وبن جامان كونستان، وعظم بقوافي بايرون وبوشكين، وسيس بقلم شاتوبريان وموزوني، وصعد درجات السمو عبر فيكتور هيغ، وتولستوي، وتجدد مع توماس مان وأندريه جيد، لكن و يا للأسف لا توجد صورة أي من هؤلاء على بطاقة عملة اليورو.
اليوم ما يوحد قراءنا هو الثقافة الشعبية، وهذا الميل يظهر جلياً في طوابير الانتظار أمام نوافذ السينما حيث تعرض أعمال هاري بوتر وحكايات غرين، فماذا نستطيع القول عن الكاتب الأوروبي، إن بطاقة الهوية واللغة لا يشكلان عناوين حقيقية.
كافكا بول سيلان وجورج بيرك كانا يكتبان بالألمانية أو بالفرنسية، أما إيمي سيزير النائب في البرلمان والمنتمي إلى بلد أوروبي مؤسس للاتحاد لم يعتبره أحد شاعراً أوروبياً.
منذ فترة كاد ناشر بلجيكي أن ينتج أول دليل تعليمي لتاريخ الأدب على صعيد القارة تحت عنوان الآداب الأوروبية وبعد فترة وجيزة قال ميلان كونديرا وهو من الشخصيات الأساسية في الكتاب: إن أوروبا لم تنجح في توحيد تفكيرها الأدبي كوحدة تاريخية، ولن أتوقف عن الاعتقاد أن ذلك هو إخفاق ثقافي لا يمكن إصلاحه.
عندما يعترض كونديرا على الوضع القائم فهو على قناعة بأن الأدب ضحية إهمال ذو منشأ سياسي.. إن الآمال كبيرة لكنها تبقى تحلق كشبح فوق العاصمة الأوروبية ستراسبورغ ولا أحد يسمع شكواها، وهناك موسيقا ومسرح وفن أوروبي مثقل بهيمنة اللغة الإنكليزية التجارية، وانطوائية اللغات الأخرى على نفسها.
ويضع أمبرتوا إيكو أصبعه على الجرح عندما يؤكد أن لغة أوروبا الحقيقية هي الترجمة لكن هذه اللغة لا يتقاسمها، لأن الإنكليزية تغلق أبوابها أمام المؤلفات الأجنبية في حين أنها تبدو الملاذ الأخير للفرنسية، بالطبع لن نعود إلى ذاك الزمن حيث كانت باريس عاصمة الآداب العالمية، يوم كان كازانوتا وبوتوكي وسيوران وبيكيت، هؤلاء الذين تمسكوا بلغة فولتير.
الأدب الفرنسي لم يعد قادراً على الادعاء بأنه يستطيع تعميم نمطه على الآداب الأخرى، لكن حين نفتح باب ضيافتنا للآداب الأخرى عبر الترجمة ولكل المؤلفات الأوروبية يمكن أن نحرك بذلك حلم الثقافة العالمية كما كان يراه كتاب عصر التنوير.
أوروبا هي ابنة الشعر ورثناها من اليونان والرومان والأدب هو مستقبلها وهذه هي قناعتي الشخصية.
وفي المشهد الثقافي العربي لاسيما النقدي يقول الشاعر السوري أدونيس: إن الشعر هو مستقبل العالم، وبالتالي هذا التوافق الإشعاعي في رؤية الشعر ودوره يقودنا من جديد إلى دور الجمال الذي تصنعه الثقافات والمبدعون.
العدد 1147 – 13-6-2023